في لفظ الصديق معاني ينصت لها القلب قبل الفكر،
وتنهض المشاعر متدفقة في مودة، وحب تستكين له النفس، وتتآلف في صفاء روحي
وتجاذب وتقارب يجعل من الفطرة السوية، ميلاً إلى المخالطة والمعاشرة
والمجالسة، ومنها: المصاحبة التي هي الدافع إلى اكتساب طبائع الآخرين
وسلوكهم ومعاملاتهم وعقائدهم.
وقد تكون تلك الصداقة أو المصاحبة سبب في
شقاء الإنسان أو سعادته. بحسب اختيارنا وميلنا نحو الآخر؛ ولأن الأرواح
جنود مجندة. فهي تقود بعضها بعضا إما إلى الخير أو ضده.
والإنسان الفطن
ذو العقل الراجح المتفكر يسعى إلى اختيار صاحب الخلق والدين على غيره،
متمسكاً بفضائله والاقتداء بطباعه، وتتبع أثر صفاته سيما صدقه.
ومن
الصداقة أنها مصادقة ومكاشفة، ومحبة تتجرد من الأهواء والمصالح، تجرُ في
صلاحها إلى فعل محمود، وسلوك حسن سوي متزن، وتوجه تتعادل معه كفة الأمور
بالنظر إلى الأحكام برؤية وبصيرة ثاقبة.
عـــــاشر أناس بالذكاء تميزوا
واخــــــتر صديقك من ذوي الأخلاق
ذكر أحد الأشخاص أنه كان له صديق من خيرة الناس خلقا ودينا، يتعاهده بالنصيحة والموعظة الحسنة دائما.
يقول:
في يوم من الأيام تشاجرت مع أحد الجيران، فتعالت أصواتنا حتى اجتمع علينا
الناس. ومن بينهم كان صديقي الذي حاول فض النزاع مذكرني بمغبة ما أفعله.
وأن المسلم أخو المسلم ومن أخلاق المسلم الصبر على الأذى. استمعت إلى
نصيحته فهدأت نفسي وواعدته خيرا. وما هي إلا أيام وحصل الموقف نفسه مع أحد
الباعة المتجولين إلى أن وصل الشجار للسب والمشاتمة. وما أن علم صديقي، حتى
أتى مذكرا وواعظاً، ولأنني كنت تحت تأثير الغضب. رددت عليه بقولي : لست
طفلاً لتعظني فنظر إلي والدموع تنحدر من عينيه، ثم ذهب وهو يقول في أمان
الله، وتذكر كلامي لك.
رجعت إلى البيت وأنا في غاية الأسف لما بدر مني
تجاه أحب الناس لي: صديقي. ولم أستطع النوم ليلتها، حتى أذن الفجر قمت
متوجها للمسجد علني ألتقيه وأعتذر له و ما أن انتهت الصلاة وأخذت أبحث عنه
بين الصفوف ولم أجده. فذهبت إلى بيته وإذا بالناس جماعات حول البيت. سألت
عنه فلم يرد لي أحد جوابا. وإذا بأمه تناديني من خلف الباب وترد علي لتقول:
مات صديقك وهو يوصيك بما قاله لك. وقد كانت وصيته لي درساً تعلمت منه، و
سرت من بعده على الصراط المستقيم.
ولعل القصة السابقة تعتبر
أنموذجا نتعلم منه أن(ألْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ
إِلَّا الْمُتَّقِينَ)سورة الزخرف 76حتى في الدنيا.. لما لهم من تأثير
بالغ يفوق علاقتنا بأي أحد كان.
والصديق الصالح الحافظ لدينه
وخلقه، أعظم ما يعين على تحقيق التقوى والاستقامة. يقول ابن مسعود رضي الله
عنه (ما من شيء أدل على شيء من الصاحب على صاحبه)؛ لأنه يقتدي بفعاله
وأعماله. وإذا كان من أهل التقوى فإنه يقوي فيه الإخلاص، ويعينه على الثبات
ويرتقي به من مزالق الأهواء إلى مراتب الأخلاق الفاضلة والحياة الهانئة.
يقول ابن عمر رضي الله عنهما: (ما أعطي العبد بعد الإسلام خيرا من أخ صالح، فإذا رأى أحدكم من أخيه ودا فليتمسك به).
وكما
أن الأشجار ثمار متنوعة، فإن الأصدقاء صفاتهم متعددة فانتقي منهم أطيب
ثمارهم، وصاحب من يكون ذو نفس أبية وهمة عالية. و صاحب صلاح وفلاح. وعلم
وأدب وحكمة وتفقه في الدين. وإن العبد ليستمد من لحظ الصالحين قبل لفظهم
لأن رؤيتهم تذكر بالله.
والتمس منهم المروءة في أدب والنصيحة من غير
شغب. والقدوة الصالحة التي تنتقي منها الأدب. وخذ من صفاتهم صدق وفضيلة،
وإحسان وسلامة سريرة.
ومن أجل الصداقة الحب في الله الذي من تمسك به
كان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه ،
وتفرقا عليه ) متفق عليه.
وقد ذكر الألباني عن الحب في الله بقوله:
"إن ثمنه أن يخلص لصديقه، وذلك بالمناصحة دائماً وأبداً، بأن يأمره
بالمعروف وينهاه عن المنكر (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ
عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ
مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ
أَمْرُهُ فُرُطا) الكهف28.
وكان من دأب الصحابة حينما يتفرقون أن يقرأ
أحدهم على الآخر(وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) العصر.
والصبر أن نتواصى في اختيار
الصديق الصالح الذي يكون مفتاح خير، مغلاق شر، من الذين كأنهم قبسات من نور
نهتدي بهم في طريق الخير، ويعينونا بعد الله على نوائب الدهر. وكما قال
المناوي نقلا عن الغزالي: زيادة الأخوان في الله جواهر عباد الله ومنها
الزلفى الكريمة إلى الله، مع ما فيها من ضروب الفوائد وصلاح القلب.
فطوبى لمن صاحب خيار الناس وانتقى من الثمر أطيبه.