عندما تمطر السماء رجالاً
بقلم لبنى محمود ياسين
كاتبة وصحفية سورية
عضو اتحاد الكتاب العرب
عضو فخري في جمعية الكاتبات المصريات
بقلم لبنى محمود ياسين
كاتبة وصحفية سورية
عضو اتحاد الكتاب العرب
عضو فخري في جمعية الكاتبات المصريات
كعادتي في أيام كهذه…أتسمر أمام التلفاز كتمثال أبو الهول…أراقب القصف على العراق و اجتياح المدن الفلسطينية و استمع إلى قرارات إنزال العقوبة بسورية و قلبي يعتصر ألما…و المشاهد تستفزني حتى نقي العظام .. لكنني لا أجد ما أفعله سوى أن أتسمر أمام التلفاز و أنا عاجزة عن فعل أي شيء ,فابتلع مشاعري الغاضبة ليغص بها صدري
منذ بدء اجتياح العراق حتى اليوم تعودت الجلوس هكذا, بل أدمنته و لكنني منذ ذلك اليوم الذي رأيت فيه- و المفاجأة تكاد تشلني- سقوط غر ناطة, عفوا اقصد سقوط بغداد , لم يعد هنالك شئ يستطيع مفاجأتي أو حتى يثير استغرابي في زمن وقح كهذا ,و أمام عدو اكثر وقاحة من أن يوصف .
كنت أراقب انهيار حضارة بكاملها …في أيدي من لا حضارة لديهم إلا حضارة السلاح و القوة والمنطق الأعوج , و أنا ابتلع غيظي و غضبي , ملفعاً بصبر لا ادري من أين حصلت عليه …لعل السماء أمطرتنا صبرا - نحن الشعوب العربية- فلم نقدم على أي عمل أحمق يعيب حضارتنا .
و لسبب ما- ربما يكمن في خروج الآلاف من الغربيين رافضين الاحتلال الأمريكي للعراق - أظن أن المناخ لدينا يختلف تماما عن مناخاتهم فالسماء لديهم لا تمطر صبرا, حتى عندما لا يكون الأمر بحد ذاته مهين أو مؤلم لهم كما هو لنا.
ينقل اليوم التلفاز ضحايا قصف أمريكي على إحدى مناطق الفلوجة …تأتي ابنتي ذات الأعوام الستة لتجلس بقربي و تسألني بفضول برئ بعد أن اختلطت عليها المشاهد لشدة تشابهها:
- ماما……… هل هذه فلسطين يضربها اليهود؟؟
فأجيب:
- لا …هذه العراق تحت القصف الأمريكي.
تسألني: لماذا؟؟
أقول:….ربما لأنهم عرب…ربما لأنهم مسلمون , و ربما من اجل النفط , و ربما من أجل المصالح اليهودية و ربما من أجل كل ذلك معا.
يظهر على التلفاز طفل عراقي …يحمل هويته دما و أسى على ملامح تمزقت بشظايا قنابل …ربما سقطت سهواً بين المدنيين …لانهم كما قالوا لن يستهدفوا المدنيين …
و لأن الأمريكيين لا يكذبون أبداً…فأغلب الظن أن آلاف القنابل تلك سقطت سهواً …فعفواً أيتها المدينة الغافية باطمئنان ..عندما تمزق وجهك الشرقي الجميل آلاف القنابل الساقطة سهواً…و عفواً أيها الأطفال و النساء و الشيوخ و المدنيين فقد سقطتم سهواً لتصفية حسابات لم تحسبوا انتم حسابها.
و تخرجني ابنتي من شرودي متسائلة مرة أخرى: هل هذا الولد عراقي؟؟
أجيب:نعم
تسألني بمنطقها الطفو لي البسيط:لماذا لم يدافع عنه أبوه و أمه؟؟
أجيب: لقد فقد أباه و أمه …ماتا عندما سقطت قنبلة فوق بيتهم.
و يدور في رأسي منظر الضحايا العراقيين المحترقين بالقنابل العنقودية ..التي منع استخدامها في كافة أنحاء العالم- عفوا …نسيت أننا لا ننتمي إلى العالم- و كيف أن أي اتفاقية توقع في العالم يترتب ضمنها علينا كعرب واجبات..واجبات فقط و ليس حقوق .
فنحن من واجبنا تحقيقا لبنود اتفاقية جنيف أن لا نعرض الأسرى الأمريكيين و هم يجلسون على الكراسي مكبلين, و لكن ليس من حقنا قطعاً أن لا يعرض أسرانا و هم راكعون على الأرض , أو تعرض مشاهد التفتيش في المواقع العراقية التي يقوم بها الأمريكيون ضد العراقيين ,يا له من منطق معكوس…..
يفتش الإنسان في موطنه من شخص دخيل , دون أي مراعاة لديننا و عاداتنا و أعرافنا عندما تكون المارة امرأة و يجري تفتيشها من قبل جندي أمريكي.
و من واجبنا أن ننتزع أسلحتنا كافة و نسلمها للأمريكيين …
و ليس من حقنا أن لا تستخدم الأسلحة ضدنا …حتى تلك الممنوعة في العالم بأسره. تخرجني ابنتي من عالم أفكاري متسائلة:
- ماما ألم تقولي لي أن فلسطين ستتحرر؟؟
- قلت : بلى بالتأكيد.
تعقب: و لكن العراق أيضا احتُلت!!
لم أجب…بل لم أجد ما أجيبها به.
قالت:
- هل ستبقى العراق كفلسطين تحت الاحتلال ؟؟
قلت :لا يا ابنتي (لا قدّر الله) سنحررهما - …لن يبقى لا احتلال إسرائيلي و لا أمريكي.
- تسألني: متى؟؟
ووجدتني أجيب بدون تفكير:
- عندما تمطر السماء رجالاً.