تعرضت سياسة مصر
الرسمية تجاه الأزمة التي اندلعت مؤخرا في قطاع غزة لانتقادات حادة تذكرنا
بردود الفعل الغاضبة التي عمت العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه عقب زيارة
الرئيس السادات للقدس وما تبعها من إبرام معاهدة سلام منفرد مع إسرائيل عام
1979 أفضت في النهاية إلى تجميد عضوية مصر في جامعة الدول العربية لما
يقرب من عشر سنوات ونقل مقرها إلى تونس.
من هنا تأتي صعوبة التعامل
مع المجزرة التي قامت إسرائيل بارتكابها في غزة وكأنها مجرد أزمة عادية
قابلة للاحتواء، شأنها شأن بقية الأزمات التي يشهدها النظام العربي بين
الحين والآخر.
ولأن أزمة غزة ما تزال في أوج تفاعلاتها, وبالتالي
فمن المتوقع أن يكون لها ما بعدها رغم توقف العمليات العسكرية, فإنه يصعب
التعرف على الخيارات المتاحة أمام مصر في المرحلة القادمة دون التعرف على
طبيعة المأزق الذي وصلت إليه سياساتها الراهنة تجاه القضية الفلسطينية,
بصفة عامة, وتجاه تطور الأوضاع في قطاع غزة, بصفة خاصة.
ولهذا فإن
المقالة ستنشر في قسمين، الأول منها في هذه الصفحة.
القسم الأول:
كيف وصلت سياسة مبارك إلى مأزقها الفلسطيني الراهن.
القسم الثاني:
خيارات مصر المتاحة في المرحلة القادمة.
* * *
للإحاطة
بحقيقة المأزق الذي وصلت إليه سياسة مصر الرسمية والراهنة وللإحاطة في
القسم الثاني من هذه الورقة بضيق الخيارات المتاحة أمام مصر في هذا الصدد,
علينا أن نرصد تطور رؤية صانع القرار للمحددات الثلاث المؤثرة على هذه
السياسة, وهي:
"
ليس لدى الرئيس مبارك, بعكس سلفيه عبد الناصر
والسادات, أي اهتمام بالعمل السياسي سواء في شبابه أو طوال فترة حياته
المهنية كضابط, ولم يصل إلى موقعه في رئاسة الدولة المصرية إلا بطريق
الصدفة البحتة في لحظة درامية في التاريخ المصري أغتيل فيها سلفه أمام
عينيه
"
1- المحدد الإسرائيلي- الأمريكي.
2- والمحدد العربي.
3-
والمحدد الداخلي, خاصة منذ وصول الرئيس مبارك للسلطة.
ولكن قبل أن
نخوض في تفاصيل هذه المحددات, يحسن بنا أن نتذكر أمرين على جانب كبير من
الأهمية، الأول منها يتعلق بموقع غزة من نظرية الأمن الوطني المصري. أما
الثاني فيتعلق بشخصية صانع القرار المصري وما طرأ عليها من تحولات درامية.
الأول:
موقع
غزة من نظرية الأمن الوطني المصري
ففيما يتعلق بالأمر الأول, من
المعروف أن غزة تحتل موقعا مركزيا في نظرية الأمن الوطني المصري والتي
ترتكز على فكرة بسيطة مفادها أن مصر تشكل مع المشرق العربي كتلة استراتيجية
واحدة.
وهذه الفكرة مستمدة من حقيقة تاريخية تقول بأن معظم الغزاة
الذين جاءوا إلى المنطقة قاصدين احتلال بلاد الشام سرعان ما كانوا يكتشفون
أنهم لا يستطيعون البقاء فيها طويلا إلا بالسيطرة على مصر, وأن الغزاة
الذين جاءوا قاصدين احتلال مصر سرعان ما كانوا يكتشفون أنهم لا يستطيعون
البقاء فيها طويلا إلا باحتلال بلاد الشام, خاصة فلسطين!.
وقد ظلت
هذه النظرية, والتي تفسر الأسباب الحقيقية لانخراط مصر في الصراع العربي
الإسرائيلي منذ البداية, مهيمنة على مدركات صانع القرار المصري في كل النظم
والعصور منذ نشأة الدولة المصرية الحديثة في عهد محمد علي وحتى وفاة عبد
الناصر, إلى أن بدأ يطرأ عليها تحول تدريجي عقب وصول السادات إلى السلطة,
وهو تحول راح يترسخ في عهد مبارك إلى أن أوصل السياسات المصرية إلى مأزقها
الراهن!.
ومن الطبيعي أن يكون لغزة, في سياق هذه النظرية, موقعا
مركزيا في التفكير الاستراتيجي المصري باعتبارها البوابة البرية الوحيدة
التي تطل مصر من خلالها على المشرق العربي منذ قيام إسرائيل.
الثاني:
شخصية
صانع القرار المصري وما طرأ عليها من تغييرات.
فمن المعروف أنه ليس لدى
الرئيس حسني مبارك, بعكس سلفيه جمال عبد الناصر وأنور السادات, أي اهتمام
بالعمل السياسي سواء في شبابه أو طوال فترة حياته المهنية كضابط, وأنه لم
يصل إلى موقعه في رئاسة الدولة المصرية إلا بطريق الصدفة البحتة في لحظة
درامية في التاريخ المصري أغتيل فيها سلفه أمام عينيه.
وقد مرت منذ
هذه اللحظة وحتى اليوم فترة زمنية طالت لأكثر من 27 عاما طرأت خلالها
تحولات عميقة على شخصية الرجل. وبدون فهم وإدراك طبيعة وعمق هذه التحولات
يصعب فهم الدلالات الحقيقية للقرارات المحددة لتوجهات السياسة المصرية تجاه
الصراع العربي الإسرائيلي بشكل عام، وتجاه الأحداث الأخيرة في غزة بشكل
خاص.
فالانطباع العام عن شخصية الرئيس مبارك في بداية عهده كان
مستمدا من خطاب سياسي يدور في مجمله حول النزاهة وطهارة اليد و"الكفن الذي
ليس له جيوب", أما الأن فهذا الانطباع مستمد من ممارسات تقول بأن الرجل
أصبح عاشقا للسلطة إلى درجة أنه لم يعد يعنيه أي شيء آخر سوى نقلها من بعده
لابنه جمال!.
أدرك الرئيس مبارك منذ اللحظة الأولى لوصوله للسلطة
أن إبرام سلفه لمعاهدة سلام منفرد مع إسرائيل كانت أحد أهم الأسباب التي
أوصلت سياساته إلى مأزق دفع حياته ثمنا له، وبات عليه هو أن يجد لمصر مخرجا
منه أي المأزق.
أما مؤشرات هذا المأزق فكانت كثيرة أهمها:
-
علاقة مختلة مع القوى الرئيسية في النظام الدولي.
- وعلاقة رسمية
مقطوعة ومتوترة مع عمقها العربي.
- واحتقان داخلي جسده اعتقال كافة رموز
الحركة الوطنية المصرية, من ناحية, وتصاعد عنف الجماعات الاسلامية, من
ناحية أخرى.
وحتى بداية التسعينات كان الرئيس مبارك, البراجماتي
والمستعد للإنصات إلى مستشاريه في تلك الفترة, قد استطاع أن يصوغ سياساته
على الصعيدين الداخلي والخارجي بطريقة بدت قادرة على الخروج بمصر من المأزق
الذي كانت سياسات سلفه قد وضعتها فيه, غير أن هذه السياسات ما لبثت أن
انحرفت عن مسارها بفعل التغيرات التي طرأت على شخصيته لتصل بها في النهاية
إلى مأزق جديد.
إدارة العلاقة مع العالم الخارجي
بدت إسرائيل
حريصة, منذ اللحظة الأولى لتوليه السلطة, على عدم منح الرئيس مبارك أي فرصة
لالتقاط الأنفاس وسعت لاختبار نواياه الحقيقية تجاه معاهدة السلام.
ولأن
الانسحاب الإسرائيلي لم يكن قد اكتمل بعد فقد بدا مبارك حريصا بدوره على
عدم إعطاء إسرائيل أي ذريعة للتملص من التزاماتها، وعندما اتضح أن إسرائيل
ترغب في الاحتفاظ بطابا وترفضت الانسحاب منها لم يتردد مبارك في خوض
المعركة معها, ولكن بالوسائل الدبلوماسية والقضائية.
غير إن إسرائيل
لم تضيع وقتها وبدأت تضع الرجل أمام اختبارات وتحديات أكبر، فبعد شهر واحد
من إتمام انسحابها من سيناء قامت بغزو لبنان ووصلت بجيوشها إلى قلب
العاصمة بيروت, في أول سابقة من نوعها في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.
حينها
لا بد أن يكون قد وقر في يقين الرئيس مبارك أن إسرائيل لا تريد السلام,
وأنها لا تهدف سوى عزل مصر عن محيطها العربي تمهيدا لفرض شروطها للتسوية,
ولو بقوة السلاح, على بقية الأطراف العربية، ورغم قلة البدائل المتاحة أمام
مبارك, إلا أنه لم يتردد في التعبير عن احتجاجه بسحب السفير المصري من
إسرائيل.
ولأن دول الخليج العربي بدت في ذلك الوقت قلقة ومشغولة
أكثر من أي شيء آخر بثورة إيران الإسلامية, والتي كان العراق قد بدأ يشن
عليها حربا طالت لأكثر من ثماني سنوات, فإن مبارك, والذي كان يخوض معركة
قضائية كبرى لاستعادة طابا, لم يشعر أنه واقع تحت ضغوط أو لديه مبررات
تدفعه لإلغاء معاهدة السلام.
ولذا كان بوسعه أن يتعامل مع إسرائيل
وفق "صيغة الحد الأدنى" أو "السلام البارد"، ووجد في هذه الصيغة وسيلة
ناجحة ليس فقط للخروج بمصر من عزلتها الدولية، ولكن لتحسين صورته الداخلية
كمتفهم للمطالب الشعبية بعدم التطبيع مع إسرائيل!.
تجدر الإشارة هنا
إلى أن قدرة إسرائيل على ابتزاز الولايات المتحدة ودفعها للضغط على مصر
للإسراع بوتيرة "التطبيع" كانت محدودة نسبيا طوال حقبة الثمانينات, في ظل
نظام دولي كان ما يزال ثنائي القطبية, واستمرت كذلك إلى حد كبير حتى نهاية
التسعينات, بسبب حاجة الولايات المتحدة لدور مصري:
- يحجم الطموحات
الإقليمية لكل من إيران والعراق, من ناحية،.
- ومن ناحية أخرى لتعريب
"عملية سلام" ظلت منفردة ومعزولة, وبالتالي هشة إلى حين انعقاد مؤتمر مدريد
في بداية التسعينات!.
في هذا السياق, استطاعت مصر أن تعيد صياغة
علاقاتها الدولية على أسس أكثر توازنا وأن تستعيد تدريجيا دورها الإقليمي
عقب عودة علاقتها المقطوعة أو المجمدة بمعظم الدول والتكتلات والحركات
العالمية، دون المساس بالحد الأدني من التزاماتها بموجب معاهدة السلام مع
إسرائيل.
بل إن مصر بدت طوال التسعينات وكأنها الطرف الإقليمي
الأقدر على الحركة الفاعلة بحثا عن تسوية شاملة للصراع العربي الإسرائيلي،
غير أن قدرة مصر في هذا المجال راحت تتآكل تدريجيا لأسباب عديدة بعضها
دولي, وبعضها الآخر إقليمي, وبعضها الثالث محلي.
فعلى الصعيد
الدولي,
أدت التحولات التي طرأت بعد سقوط الاتحاد السوفيتي إلى تمكين
الولايات المتحدة من الهيمنة المنفردة على النظام الدولي والسعي لإملاء
شروطها على الجميع, خاصة بعد وصول المحافظين الجدد إلى السلطة عام 2000
ووقوع أحداث سبتمبر عام 2001.
وعلى الصعيد الإقليمي,
انسدت أفق
التسوية السياسية للصراع العربي الإسرائيلي بسبب تعنت إسرائيل, خاصة بعد
وصول شارون للسلطة وتصفية عرفات, وعدم اهتمام إدارة بوش بعملية التسوية
ودعمها المطلق وغير المشروط لموقف شارون المتعنت.
وعلى الصعيد
المحلي,
بدأ نجم جمال مبارك نجل الرئيس في الصعود على الساحة السياسة
المصرية وبدأت محاولات تهيئة هذه الساحة لقبول القادم الجديد كوريث شرعي
وحيد لسلطة والده, مما جعل مركز صنع القرار في مصر أكثر عرضة لمحاولات
الابتزاز من جانب قوى داخلية وخارجية عديدة.
وفي هذا السياق وحده
يمكن فهم الأسباب التي أدت إلى تلك الطفرة المفاجئة في اتجاه تحسين
العلاقات المصرية الإسرائيلية والتي لم يكن لها ما يبررها على الإطلاق.
وكان أبرز معالم هذا التحسين:
- الإفراج عن الجاسوس الإسرائيلي عزام
عزام.
- وتوقيع اتفاقية "الكويز" مع إسرائيل.
- ثم, وعلى وجه
الخصوص, إبرام صفقة لتوريد الغاز لإسرائيل وبأسعار تفضيلية حرصت السلطات
الرسمية على إخفائها, ولمدة عشرين عاما!.
وأدت الأوضاع الناجمة عن
تفاعل هذه العوامل الثلاثة إلى تشكل تيارين في المنطقة أحدهما:
-
"تيار الممانعة" للمشروع الإسرائيلي الأمريكي في المنطقة, كانت إيران هي
الأكثر تأهيلا لقيادته وتحالفت معها أطراف عربية مختلفة.
- و"تيار
الاعتدال" أو الموالاة, كانت إسرائيل هي المرشح الأبرز, ولكن غير الرسمي,
لقيادته وتحالفت معها دول عربية أخرى أهمها مصر والسعودية والأردن. وكان
انحياز مصر إلى هذا التيار وانخراطها ضمن هذا الحلف هو أحد أهم الأسباب
التي أدت إلى وصول سياستها الرسمية تجاه القضية الفلسطينية إلى مأزقها
الراهن على النحو الذي سنفصله فيما بعد.
إدارة العلاقات العربية
والإقليمية
"
من المفارقة أن تكون حرب أميركا الأولى على العراق هي
مناسبة لاستئناف سوريا علاقتها المقطوعة مع واشنطن، وأن تضع حرب أميركا
الثانية على العراق نهاية لشهر العسل بينهما، وبداية لمرحلة جديدة من
المواجهة ومن إعادة تشكيل المحاور في المنطقة
"
تكفلت التناقضات
العربية-العربية بتسهيل مهمة الرئيس مبارك في العودة بمصر إلى الصف العربي
بعد قطيعة دامت لما يقرب من عشر سنوات، دون أن تؤثر هذه العودة على علاقة
مصر بإسرائيل أو بالولايات المتحدة أو تمس بطموحاته الداخلية.
فجبهة
"الصمود والتصدي" التي حاول الرئيس الراحل صدام حسين تشكيلها تحت قيادته
على أمل أن تتمكن من ملء الفراغ الناجم عن خروج مصر من معادلة الصراع مع
إسرائيل، انهارت عقب اندلاع الثورة الإيرانية وانخراط العراق في حرب طويلة
معها.
في الوقت نفسه فتح الصراع المزمن بين الرئيس ياسرعرفات
والرئيس حافظ الأسد, والذي تفاقم عقب الغزو الإسرائيلي للبنان وخروج منظمة
التحرير الفلسطينية من الجنوب اللبناني, ثغرة سمحت بعودة مبكرة للاتصالات
الرسمية والعلنية بين مصر ومنظمة التحرير الفلسطينية دون انتظار لعودة
الجامعة العربية إلى مقرها بالقاهرة.
غير أن هذه العودة كانت في حد
ذاتها دليلا على تراجع القضية الفلسطينية عن الموقع المركزي الذي كانت
تحتله على جدول أعمال النظام العربي، ولم يكن السبب الوحيد لهذا التراجع هو
إبرام مصر لمعاهدة سلام منفرد مع إسرائيل, وإنما أيضا لأن بعض الدول
العربية, وعلى رأسها العراق ومن ورائه دول الخليج العربي, راحت تتصرف وكأن
إيران الإسلامية, وليس إسرائيل, قد أصبحت هي مصدر التهديد أو الخطر على
الأمن العربي!.
في سياق كهذا لم يكن غريبا أن تفضي الحرب العراقية
الإيرانية في النهاية، إلى عودة الجامعة العربية إلى القاهرة، مثلما أفضت
الحرب الإسرائيلية على لبنان في بداية الثمانينات إلى عودة منظمة التحرير
الفلسطينية إلى مصر من قبل!.
لكن ما إن وضعت الحرب العراقية
الإيرانية أوزارها وخرج منها العراق منتصرا, حتى لاحت لحظة بدا فيها النظام
العربي وكأنه قادر على الالتئام والعودة إلى تماسكه من جديد، ولكن العراق
لجأ لتشكيل محور جديد مع مصر والأردن واليمن, من خلال "مجلس تعاون عربي"
بدا واضحا أنه لم يكن سوى أداة لعزل سوريا، وتمهيدا لقرار أحمق بغزو الكويت
يبدو أن الرئيس صدام حسين كان قد بدأ يفكر فيه بجدية!.
ومن
المفارقة أن تتخذ الولايات المتحدة من هذا القرار ذريعة لبداية عملية تدمير
منظم ومنهجي ضد العراق, حليفتها الطبيعية في مواجهة إيران, بدأت بعقوبات
بالغة القسوة وانتهت بشن حرب عدوانية عليه واحتلاله عام 2003.
ومن
المفارقة أيضا أن تكون حرب الولايات المتحدة الأولى على العراق هي المناسبة
التي ستستغلها سوريا لاستئناف علاقتها المقطوعة مع الولايات المتحدة
وللانخراط لاحقا مع بقية الدول العربية الأخرى، في عملية تسوية سلمية
للصراع مع إسرائيل بدأت في مدريد, وأن تضع حرب أمريكية ثانية على العراق
نهاية لشهر العسل بين البلدين وبداية لمرحلة جديدة من المواجهة ومن إعادة
تشكيل المحاور في المنطقة.
ومن المفارقة, ثالثا, أن تكون إيران هي
البلد الوحيد القادر على استغلال تخبط السياسة الأمريكية, وتبعية السياسة
العربية, وتعنت السياسة الإسرائيلية, وتوظيف كل هذا التخبط والتبعية
والتعنت لصالحها!
فإيران استطاعت من خلال دعمها ونجاحها في إقامة
علاقات مميزة مع حركات المقاومة المسلحة في لبنان, خاصة مع حزب الله, ومع
حركات المقاومة المسلحة في فلسطين, خاصة مع حماس والجهاد, وأيضا من خلال
قدرتها على المحافظة على علاقات تحالف استراتيجية قوية مع سوريا, رغم
تذبذبها التكتيكي بين الحين والآخر, أن تصبح هي اللاعب الأساسي والأقوى في
المنطقة.
كما استطاعت إيران أن تخرج من رهاناتها فائزة في ثلاث
مناسبات هامة,
- الأولى، عندما نجح حليفها حزب الله في تحرير الجنوب
اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي دون قيد أو شرط عام 2000.
- والثانية،
عندما استطاع نفس الحليف أن يصمد في حرب إسرائيلية مفتوحة استمرت ثلاثة
وثلاثين يوما خلال صيف 2006.
- والثالثة، عندما استطاعت فصائل المقاومة
الفلسطينية المسلحة أن تصمد لأكثر من ثلاثة أسابيع أمام مجزرة إسرائيلية.
واللافت
للنظر هنا أنه كان بوسع الولايات المتحدة أن تضمن دائما تأييدا ودعما
عربيا رسميا واسع النطاق لسياساتها في مواجهة إيران, رغم انحيازها المطلق
وغير المشروط لإسرائيل دون أن يشذ عن هذه القاعدة, نسبيا ومرحليا, سوى
سوريا.
كما يلفت النظر أيضا أن مصر الرسمية كانت في مقدمة الدول
الأكثر تجاوبا مع المحاولات الرامية لعزل إيران واعتبارها مصدر التهديد
الرئيسي لأمن المنطقة، ولا جدال في أن موقف السادات من نظام الشاه وسياساته
تجاه إسرائيل والقضية الفلسطينية, والتي لم تتغير في جوهرها طوال عهد
مبارك مع العهد الإيراني الجديد, تفسر إلى حد كبير أسباب إخفاق محاولات
كثيرة بذلت لتننقية الأجواء مع إيران.
وبهذا فقد أظهرت الحرب
الإسرائيلية الإخيرة على قطاع غزة مرة أخرى عمق الخلافات المصرية
الإيرانية.
إدارة العلاقة مع الفلسطينييين
"
ازداد قلق
مبارك, بعد رحيل عرفات, من تزايد نفوذ حماس والتي يعتبرها امتدادا لجماعة
الإخوان المسلمين, وراحت هذه المخاوف تكبر وتتضخم عقب فوز حماس بأغلبية
مقاعد المجلس الوطني الفلسطيني عام 2006, والذي فاجأ الجميع
"
شكل
خروج مصر من حلبة الصراع العسكري مع إسرائيل في عهد الرئيس السادات صدمة
كبيرة للفلسطينيين وأحدث فراغا لم تستطع أي دولة عربية أخرى أن تملأه، ومع
ذلك ظل وجود عرفات على رأس منظمة التحرير ثم على رأس السلطة الفلسطينية
بمثابة صمام أمان سمح بالإبقاء على الجسور مفتوحة بين الطرفين، بصرف النظر
عن شكل القيادة المصرية.
فعبد الناصر هو الذي لعب الدور الأكبر
لإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية, وهو الذي مهد الطريق أمام عرفات ليتولى
رئاستها خلفا لأحمد الشقيري بعد هزيمة 67، غير أن ذلك لم يمنع عرفات من
مهاجمة عبد الناصر حين قبل الأخير "بمبادرة روجرز" عام 1969, وهو موقف لم
يمنع عبد الناصر بدوره من إنقاذ عرفات من مذبجة أيلول الأسود عام 1970 أو
من تهريبه سرا من الأردن لحضور آخر قمة عربية له قبل وفاته أي وفاة عبد
الناصر.
وكان عرفات حاضرا في جلسة مجلس الشعب المصري التي أعلن فيها
السادات عزمه على زيارة القدس عام 1977, كما كان الرئيس مبارك هو الذي
اصطحب عرفات بنفسه إلى قطاع غزة بعد إبرامه لاتفاق أوسلو الذي لم يستشر فيه
مسبقا، وقام رغم ذلك بتبنيه ودعمه باتفاق القاهرة عام 1995! ومن اللافت
للنظر أن مبارك وعرفات ظلا حريصين على حيوية العلاقة بينهما رغم الفتور
الذي كان ينتابها بين الحين والآخر كالمعتاد. وقد استمر الحال على هذا
المنوال إلى أن لفظ عرفات أنفاسه الأخيرة وتم تشييع جثمانه رسميا في موكب
مهيب في القاهرة.
كان مبارك قد أدرك أن عرفات انتهى سياسيا قبل أن
يموت جسديا، وبدا عاجزا عن إنقاذه من حصار فرضه عليه شارون في المقاطعة.
ولأن الإسرائيليين والأمريكيين بدأوا يراهنون على محمود عباس وقرروا
التخلص من عرفات, فقد أخذ الرئيس مبارك يوفق أوضاعه تدريجيا مع مستجدات
الساحة الفلسطينية.
وازداد قلق مبارك, بعد رحيل عرفات, من تزايد
نفوذ حماس والتي يعتبرها امتدادا لجماعة الإخوان المسلمين, خصوصا بعد فوز
هذه الأخيرة بحوالي خمس مقاعد من مجلس الشعب في الانتخابات التشريعية التي
جرت عام 2005, ثم راحت هذه المخاوف تكبر وتتضخم عقب فوز حماس بأغلبية مقاعد
المجلس الوطني الفلسطيني عام 2006, والذي فاجأ الجميع.
وهكذا راحت
تتبلور تدريجيا معالم أزمة بين مصر وحماس, بدأت كامنة ثم راحت تفصح عن
نفسها باشكال عديدة، إلى أن انفجرت عقب ما سمي بانقلاب حماس على الشرعية
وما تبعها من قيام مصر بالتجاوب مع حصار إسرائيلي فرض على قطاع غزة تم
بموجبه إغلاق معبر رفح, منفذ القطاع الوحيد إلى العالم الخارجي.
وهكذا
بدأت مصر, ولأول مرة في تاريخ القضية الفلسطينية, تصبح طرفا في صراع داخلي
وتنحاز إلى فصيل فلسطيني ضد فصيل فلسطيني آخر, مما يلقي بظلاله على دور
مصر، ليس فقط فيما يتعلق بتطور الأوضاع في غزة، ولكن أيضا بالنسبة لمستقبل
القضية الفلسطينية برمتها وربما المنطقة,
تعرضت سياسة مصر
الرسمية تجاه الأزمة التي اندلعت مؤخرا في قطاع غزة لانتقادات حادة تذكرنا
بردود الفعل الغاضبة التي عمت العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه عقب زيارة
الرئيس السادات للقدس وما تبعها من إبرام معاهدة سلام منفرد مع إسرائيل عام
1979 أفضت في النهاية إلى تجميد عضوية مصر في جامعة الدول العربية لما
يقرب من عشر سنوات ونقل مقرها إلى تونس.
من هنا تأتي صعوبة التعامل
مع المجزرة التي قامت إسرائيل بارتكابها في غزة وكأنها مجرد أزمة عادية
قابلة للاحتواء، شأنها شأن بقية الأزمات التي يشهدها النظام العربي بين
الحين والآخر.
ولأن أزمة غزة ما تزال في أوج تفاعلاتها, وبالتالي
فمن المتوقع أن يكون لها ما بعدها رغم توقف العمليات العسكرية, فإنه يصعب
التعرف على الخيارات المتاحة أمام مصر في المرحلة القادمة دون التعرف على
طبيعة المأزق الذي وصلت إليه سياساتها الراهنة تجاه القضية الفلسطينية,
بصفة عامة, وتجاه تطور الأوضاع في قطاع غزة, بصفة خاصة.
ولهذا فإن
المقالة ستنشر في قسمين، الأول منها في هذه الصفحة.
القسم الأول:
كيف وصلت سياسة مبارك إلى مأزقها الفلسطيني الراهن.
القسم الثاني:
خيارات مصر المتاحة في المرحلة القادمة.
* * *
للإحاطة
بحقيقة المأزق الذي وصلت إليه سياسة مصر الرسمية والراهنة وللإحاطة في
القسم الثاني من هذه الورقة بضيق الخيارات المتاحة أمام مصر في هذا الصدد,
علينا أن نرصد تطور رؤية صانع القرار للمحددات الثلاث المؤثرة على هذه
السياسة, وهي:
"
ليس لدى الرئيس مبارك, بعكس سلفيه عبد الناصر
والسادات, أي اهتمام بالعمل السياسي سواء في شبابه أو طوال فترة حياته
المهنية كضابط, ولم يصل إلى موقعه في رئاسة الدولة المصرية إلا بطريق
الصدفة البحتة في لحظة درامية في التاريخ المصري أغتيل فيها سلفه أمام
عينيه
"
1- المحدد الإسرائيلي- الأمريكي.
2- والمحدد العربي.
3-
والمحدد الداخلي, خاصة منذ وصول الرئيس مبارك للسلطة.
ولكن قبل أن
نخوض في تفاصيل هذه المحددات, يحسن بنا أن نتذكر أمرين على جانب كبير من
الأهمية، الأول منها يتعلق بموقع غزة من نظرية الأمن الوطني المصري. أما
الثاني فيتعلق بشخصية صانع القرار المصري وما طرأ عليها من تحولات درامية.
الأول:
موقع
غزة من نظرية الأمن الوطني المصري
ففيما يتعلق بالأمر الأول, من
المعروف أن غزة تحتل موقعا مركزيا في نظرية الأمن الوطني المصري والتي
ترتكز على فكرة بسيطة مفادها أن مصر تشكل مع المشرق العربي كتلة استراتيجية
واحدة.
وهذه الفكرة مستمدة من حقيقة تاريخية تقول بأن معظم الغزاة
الذين جاءوا إلى المنطقة قاصدين احتلال بلاد الشام سرعان ما كانوا يكتشفون
أنهم لا يستطيعون البقاء فيها طويلا إلا بالسيطرة على مصر, وأن الغزاة
الذين جاءوا قاصدين احتلال مصر سرعان ما كانوا يكتشفون أنهم لا يستطيعون
البقاء فيها طويلا إلا باحتلال بلاد الشام, خاصة فلسطين!.
وقد ظلت
هذه النظرية, والتي تفسر الأسباب الحقيقية لانخراط مصر في الصراع العربي
الإسرائيلي منذ البداية, مهيمنة على مدركات صانع القرار المصري في كل النظم
والعصور منذ نشأة الدولة المصرية الحديثة في عهد محمد علي وحتى وفاة عبد
الناصر, إلى أن بدأ يطرأ عليها تحول تدريجي عقب وصول السادات إلى السلطة,
وهو تحول راح يترسخ في عهد مبارك إلى أن أوصل السياسات المصرية إلى مأزقها
الراهن!.
ومن الطبيعي أن يكون لغزة, في سياق هذه النظرية, موقعا
مركزيا في التفكير الاستراتيجي المصري باعتبارها البوابة البرية الوحيدة
التي تطل مصر من خلالها على المشرق العربي منذ قيام إسرائيل.
الثاني:
شخصية
صانع القرار المصري وما طرأ عليها من تغييرات.
فمن المعروف أنه ليس لدى
الرئيس حسني مبارك, بعكس سلفيه جمال عبد الناصر وأنور السادات, أي اهتمام
بالعمل السياسي سواء في شبابه أو طوال فترة حياته المهنية كضابط, وأنه لم
يصل إلى موقعه في رئاسة الدولة المصرية إلا بطريق الصدفة البحتة في لحظة
درامية في التاريخ المصري أغتيل فيها سلفه أمام عينيه.
وقد مرت منذ
هذه اللحظة وحتى اليوم فترة زمنية طالت لأكثر من 27 عاما طرأت خلالها
تحولات عميقة على شخصية الرجل. وبدون فهم وإدراك طبيعة وعمق هذه التحولات
يصعب فهم الدلالات الحقيقية للقرارات المحددة لتوجهات السياسة المصرية تجاه
الصراع العربي الإسرائيلي بشكل عام، وتجاه الأحداث الأخيرة في غزة بشكل
خاص.
فالانطباع العام عن شخصية الرئيس مبارك في بداية عهده كان
مستمدا من خطاب سياسي يدور في مجمله حول النزاهة وطهارة اليد و"الكفن الذي
ليس له جيوب", أما الأن فهذا الانطباع مستمد من ممارسات تقول بأن الرجل
أصبح عاشقا للسلطة إلى درجة أنه لم يعد يعنيه أي شيء آخر سوى نقلها من بعده
لابنه جمال!.
أدرك الرئيس مبارك منذ اللحظة الأولى لوصوله للسلطة
أن إبرام سلفه لمعاهدة سلام منفرد مع إسرائيل كانت أحد أهم الأسباب التي
أوصلت سياساته إلى مأزق دفع حياته ثمنا له، وبات عليه هو أن يجد لمصر مخرجا
منه أي المأزق.
أما مؤشرات هذا المأزق فكانت كثيرة أهمها:
-
علاقة مختلة مع القوى الرئيسية في النظام الدولي.
- وعلاقة رسمية
مقطوعة ومتوترة مع عمقها العربي.
- واحتقان داخلي جسده اعتقال كافة رموز
الحركة الوطنية المصرية, من ناحية, وتصاعد عنف الجماعات الاسلامية, من
ناحية أخرى.
وحتى بداية التسعينات كان الرئيس مبارك, البراجماتي
والمستعد للإنصات إلى مستشاريه في تلك الفترة, قد استطاع أن يصوغ سياساته
على الصعيدين الداخلي والخارجي بطريقة بدت قادرة على الخروج بمصر من المأزق
الذي كانت سياسات سلفه قد وضعتها فيه, غير أن هذه السياسات ما لبثت أن
انحرفت عن مسارها بفعل التغيرات التي طرأت على شخصيته لتصل بها في النهاية
إلى مأزق جديد.
إدارة العلاقة مع العالم الخارجي
بدت إسرائيل
حريصة, منذ اللحظة الأولى لتوليه السلطة, على عدم منح الرئيس مبارك أي فرصة
لالتقاط الأنفاس وسعت لاختبار نواياه الحقيقية تجاه معاهدة السلام.
ولأن
الانسحاب الإسرائيلي لم يكن قد اكتمل بعد فقد بدا مبارك حريصا بدوره على
عدم إعطاء إسرائيل أي ذريعة للتملص من التزاماتها، وعندما اتضح أن إسرائيل
ترغب في الاحتفاظ بطابا وترفضت الانسحاب منها لم يتردد مبارك في خوض
المعركة معها, ولكن بالوسائل الدبلوماسية والقضائية.
غير إن إسرائيل
لم تضيع وقتها وبدأت تضع الرجل أمام اختبارات وتحديات أكبر، فبعد شهر واحد
من إتمام انسحابها من سيناء قامت بغزو لبنان ووصلت بجيوشها إلى قلب
العاصمة بيروت, في أول سابقة من نوعها في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.
حينها
لا بد أن يكون قد وقر في يقين الرئيس مبارك أن إسرائيل لا تريد السلام,
وأنها لا تهدف سوى عزل مصر عن محيطها العربي تمهيدا لفرض شروطها للتسوية,
ولو بقوة السلاح, على بقية الأطراف العربية، ورغم قلة البدائل المتاحة أمام
مبارك, إلا أنه لم يتردد في التعبير عن احتجاجه بسحب السفير المصري من
إسرائيل.
ولأن دول الخليج العربي بدت في ذلك الوقت قلقة ومشغولة
أكثر من أي شيء آخر بثورة إيران الإسلامية, والتي كان العراق قد بدأ يشن
عليها حربا طالت لأكثر من ثماني سنوات, فإن مبارك, والذي كان يخوض معركة
قضائية كبرى لاستعادة طابا, لم يشعر أنه واقع تحت ضغوط أو لديه مبررات
تدفعه لإلغاء معاهدة السلام.
ولذا كان بوسعه أن يتعامل مع إسرائيل
وفق "صيغة الحد الأدنى" أو "السلام البارد"، ووجد في هذه الصيغة وسيلة
ناجحة ليس فقط للخروج بمصر من عزلتها الدولية، ولكن لتحسين صورته الداخلية
كمتفهم للمطالب الشعبية بعدم التطبيع مع إسرائيل!.
تجدر الإشارة هنا
إلى أن قدرة إسرائيل على ابتزاز الولايات المتحدة ودفعها للضغط على مصر
للإسراع بوتيرة "التطبيع" كانت محدودة نسبيا طوال حقبة الثمانينات, في ظل
نظام دولي كان ما يزال ثنائي القطبية, واستمرت كذلك إلى حد كبير حتى نهاية
التسعينات, بسبب حاجة الولايات المتحدة لدور مصري:
- يحجم الطموحات
الإقليمية لكل من إيران والعراق, من ناحية،.
- ومن ناحية أخرى لتعريب
"عملية سلام" ظلت منفردة ومعزولة, وبالتالي هشة إلى حين انعقاد مؤتمر مدريد
في بداية التسعينات!.
في هذا السياق, استطاعت مصر أن تعيد صياغة
علاقاتها الدولية على أسس أكثر توازنا وأن تستعيد تدريجيا دورها الإقليمي
عقب عودة علاقتها المقطوعة أو المجمدة بمعظم الدول والتكتلات والحركات
العالمية، دون المساس بالحد الأدني من التزاماتها بموجب معاهدة السلام مع
إسرائيل.
بل إن مصر بدت طوال التسعينات وكأنها الطرف الإقليمي
الأقدر على الحركة الفاعلة بحثا عن تسوية شاملة للصراع العربي الإسرائيلي،
غير أن قدرة مصر في هذا المجال راحت تتآكل تدريجيا لأسباب عديدة بعضها
دولي, وبعضها الآخر إقليمي, وبعضها الثالث محلي.
فعلى الصعيد
الدولي,
أدت التحولات التي طرأت بعد سقوط الاتحاد السوفيتي إلى تمكين
الولايات المتحدة من الهيمنة المنفردة على النظام الدولي والسعي لإملاء
شروطها على الجميع, خاصة بعد وصول المحافظين الجدد إلى السلطة عام 2000
ووقوع أحداث سبتمبر عام 2001.
وعلى الصعيد الإقليمي,
انسدت أفق
التسوية السياسية للصراع العربي الإسرائيلي بسبب تعنت إسرائيل, خاصة بعد
وصول شارون للسلطة وتصفية عرفات, وعدم اهتمام إدارة بوش بعملية التسوية
ودعمها المطلق وغير المشروط لموقف شارون المتعنت.
وعلى الصعيد
المحلي,
بدأ نجم جمال مبارك نجل الرئيس في الصعود على الساحة السياسة
المصرية وبدأت محاولات تهيئة هذه الساحة لقبول القادم الجديد كوريث شرعي
وحيد لسلطة والده, مما جعل مركز صنع القرار في مصر أكثر عرضة لمحاولات
الابتزاز من جانب قوى داخلية وخارجية عديدة.
وفي هذا السياق وحده
يمكن فهم الأسباب التي أدت إلى تلك الطفرة المفاجئة في اتجاه تحسين
العلاقات المصرية الإسرائيلية والتي لم يكن لها ما يبررها على الإطلاق.
وكان أبرز معالم هذا التحسين:
- الإفراج عن الجاسوس الإسرائيلي عزام
عزام.
- وتوقيع اتفاقية "الكويز" مع إسرائيل.
- ثم, وعلى وجه
الخصوص, إبرام صفقة لتوريد الغاز لإسرائيل وبأسعار تفضيلية حرصت السلطات
الرسمية على إخفائها, ولمدة عشرين عاما!.
وأدت الأوضاع الناجمة عن
تفاعل هذه العوامل الثلاثة إلى تشكل تيارين في المنطقة أحدهما:
-
"تيار الممانعة" للمشروع الإسرائيلي الأمريكي في المنطقة, كانت إيران هي
الأكثر تأهيلا لقيادته وتحالفت معها أطراف عربية مختلفة.
- و"تيار
الاعتدال" أو الموالاة, كانت إسرائيل هي المرشح الأبرز, ولكن غير الرسمي,
لقيادته وتحالفت معها دول عربية أخرى أهمها مصر والسعودية والأردن. وكان
انحياز مصر إلى هذا التيار وانخراطها ضمن هذا الحلف هو أحد أهم الأسباب
التي أدت إلى وصول سياستها الرسمية تجاه القضية الفلسطينية إلى مأزقها
الراهن على النحو الذي سنفصله فيما بعد.
إدارة العلاقات العربية
والإقليمية
"
من المفارقة أن تكون حرب أميركا الأولى على العراق هي
مناسبة لاستئناف سوريا علاقتها المقطوعة مع واشنطن، وأن تضع حرب أميركا
الثانية على العراق نهاية لشهر العسل بينهما، وبداية لمرحلة جديدة من
المواجهة ومن إعادة تشكيل المحاور في المنطقة
"
تكفلت التناقضات
العربية-العربية بتسهيل مهمة الرئيس مبارك في العودة بمصر إلى الصف العربي
بعد قطيعة دامت لما يقرب من عشر سنوات، دون أن تؤثر هذه العودة على علاقة
مصر بإسرائيل أو بالولايات المتحدة أو تمس بطموحاته الداخلية.
فجبهة
"الصمود والتصدي" التي حاول الرئيس الراحل صدام حسين تشكيلها تحت قيادته
على أمل أن تتمكن من ملء الفراغ الناجم عن خروج مصر من معادلة الصراع مع
إسرائيل، انهارت عقب اندلاع الثورة الإيرانية وانخراط العراق في حرب طويلة
معها.
في الوقت نفسه فتح الصراع المزمن بين الرئيس ياسرعرفات
والرئيس حافظ الأسد, والذي تفاقم عقب الغزو الإسرائيلي للبنان وخروج منظمة
التحرير الفلسطينية من الجنوب اللبناني, ثغرة سمحت بعودة مبكرة للاتصالات
الرسمية والعلنية بين مصر ومنظمة التحرير الفلسطينية دون انتظار لعودة
الجامعة العربية إلى مقرها بالقاهرة.
غير أن هذه العودة كانت في حد
ذاتها دليلا على تراجع القضية الفلسطينية عن الموقع المركزي الذي كانت
تحتله على جدول أعمال النظام العربي، ولم يكن السبب الوحيد لهذا التراجع هو
إبرام مصر لمعاهدة سلام منفرد مع إسرائيل, وإنما أيضا لأن بعض الدول
العربية, وعلى رأسها العراق ومن ورائه دول الخليج العربي, راحت تتصرف وكأن
إيران الإسلامية, وليس إسرائيل, قد أصبحت هي مصدر التهديد أو الخطر على
الأمن العربي!.
في سياق كهذا لم يكن غريبا أن تفضي الحرب العراقية
الإيرانية في النهاية، إلى عودة الجامعة العربية إلى القاهرة، مثلما أفضت
الحرب الإسرائيلية على لبنان في بداية الثمانينات إلى عودة منظمة التحرير
الفلسطينية إلى مصر من قبل!.
لكن ما إن وضعت الحرب العراقية
الإيرانية أوزارها وخرج منها العراق منتصرا, حتى لاحت لحظة بدا فيها النظام
العربي وكأنه قادر على الالتئام والعودة إلى تماسكه من جديد، ولكن العراق
لجأ لتشكيل محور جديد مع مصر والأردن واليمن, من خلال "مجلس تعاون عربي"
بدا واضحا أنه لم يكن سوى أداة لعزل سوريا، وتمهيدا لقرار أحمق بغزو الكويت
يبدو أن الرئيس صدام حسين كان قد بدأ يفكر فيه بجدية!.
ومن
المفارقة أن تتخذ الولايات المتحدة من هذا القرار ذريعة لبداية عملية تدمير
منظم ومنهجي ضد العراق, حليفتها الطبيعية في مواجهة إيران, بدأت بعقوبات
بالغة القسوة وانتهت بشن حرب عدوانية عليه واحتلاله عام 2003.
ومن
المفارقة أيضا أن تكون حرب الولايات المتحدة الأولى على العراق هي المناسبة
التي ستستغلها سوريا لاستئناف علاقتها المقطوعة مع الولايات المتحدة
وللانخراط لاحقا مع بقية الدول العربية الأخرى، في عملية تسوية سلمية
للصراع مع إسرائيل بدأت في مدريد, وأن تضع حرب أمريكية ثانية على العراق
نهاية لشهر العسل بين البلدين وبداية لمرحلة جديدة من المواجهة ومن إعادة
تشكيل المحاور في المنطقة.
ومن المفارقة, ثالثا, أن تكون إيران هي
البلد الوحيد القادر على استغلال تخبط السياسة الأمريكية, وتبعية السياسة
العربية, وتعنت السياسة الإسرائيلية, وتوظيف كل هذا التخبط والتبعية
والتعنت لصالحها!
فإيران استطاعت من خلال دعمها ونجاحها في إقامة
علاقات مميزة مع حركات المقاومة المسلحة في لبنان, خاصة مع حزب الله, ومع
حركات المقاومة المسلحة في فلسطين, خاصة مع حماس والجهاد, وأيضا من خلال
قدرتها على المحافظة على علاقات تحالف استراتيجية قوية مع سوريا, رغم
تذبذبها التكتيكي بين الحين والآخر, أن تصبح هي اللاعب الأساسي والأقوى في
المنطقة.
كما استطاعت إيران أن تخرج من رهاناتها فائزة في ثلاث
مناسبات هامة,
- الأولى، عندما نجح حليفها حزب الله في تحرير الجنوب
اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي دون قيد أو شرط عام 2000.
- والثانية،
عندما استطاع نفس الحليف أن يصمد في حرب إسرائيلية مفتوحة استمرت ثلاثة
وثلاثين يوما خلال صيف 2006.
- والثالثة، عندما استطاعت فصائل المقاومة
الفلسطينية المسلحة أن تصمد لأكثر من ثلاثة أسابيع أمام مجزرة إسرائيلية.
واللافت
للنظر هنا أنه كان بوسع الولايات المتحدة أن تضمن دائما تأييدا ودعما
عربيا رسميا واسع النطاق لسياساتها في مواجهة إيران, رغم انحيازها المطلق
وغير المشروط لإسرائيل دون أن يشذ عن هذه القاعدة, نسبيا ومرحليا, سوى
سوريا.
كما يلفت النظر أيضا أن مصر الرسمية كانت في مقدمة الدول
الأكثر تجاوبا مع المحاولات الرامية لعزل إيران واعتبارها مصدر التهديد
الرئيسي لأمن المنطقة، ولا جدال في أن موقف السادات من نظام الشاه وسياساته
تجاه إسرائيل والقضية الفلسطينية, والتي لم تتغير في جوهرها طوال عهد
مبارك مع العهد الإيراني الجديد, تفسر إلى حد كبير أسباب إخفاق محاولات
كثيرة بذلت لتننقية الأجواء مع إيران.
وبهذا فقد أظهرت الحرب
الإسرائيلية الإخيرة على قطاع غزة مرة أخرى عمق الخلافات المصرية
الإيرانية.
إدارة العلاقة مع الفلسطينييين
"
ازداد قلق
مبارك, بعد رحيل عرفات, من تزايد نفوذ حماس والتي يعتبرها امتدادا لجماعة
الإخوان المسلمين, وراحت هذه المخاوف تكبر وتتضخم عقب فوز حماس بأغلبية
مقاعد المجلس الوطني الفلسطيني عام 2006, والذي فاجأ الجميع
"
شكل
خروج مصر من حلبة الصراع العسكري مع إسرائيل في عهد الرئيس السادات صدمة
كبيرة للفلسطينيين وأحدث فراغا لم تستطع أي دولة عربية أخرى أن تملأه، ومع
ذلك ظل وجود عرفات على رأس منظمة التحرير ثم على رأس السلطة الفلسطينية
بمثابة صمام أمان سمح بالإبقاء على الجسور مفتوحة بين الطرفين، بصرف النظر
عن شكل القيادة المصرية.
فعبد الناصر هو الذي لعب الدور الأكبر
لإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية, وهو الذي مهد الطريق أمام عرفات ليتولى
رئاستها خلفا لأحمد الشقيري بعد هزيمة 67، غير أن ذلك لم يمنع عرفات من
مهاجمة عبد الناصر حين قبل الأخير "بمبادرة روجرز" عام 1969, وهو موقف لم
يمنع عبد الناصر بدوره من إنقاذ عرفات من مذبجة أيلول الأسود عام 1970 أو
من تهريبه سرا من الأردن لحضور آخر قمة عربية له قبل وفاته أي وفاة عبد
الناصر.
وكان عرفات حاضرا في جلسة مجلس الشعب المصري التي أعلن فيها
السادات عزمه على زيارة القدس عام 1977, كما كان الرئيس مبارك هو الذي
اصطحب عرفات بنفسه إلى قطاع غزة بعد إبرامه لاتفاق أوسلو الذي لم يستشر فيه
مسبقا، وقام رغم ذلك بتبنيه ودعمه باتفاق القاهرة عام 1995! ومن اللافت
للنظر أن مبارك وعرفات ظلا حريصين على حيوية العلاقة بينهما رغم الفتور
الذي كان ينتابها بين الحين والآخر كالمعتاد. وقد استمر الحال على هذا
المنوال إلى أن لفظ عرفات أنفاسه الأخيرة وتم تشييع جثمانه رسميا في موكب
مهيب في القاهرة.
كان مبارك قد أدرك أن عرفات انتهى سياسيا قبل أن
يموت جسديا، وبدا عاجزا عن إنقاذه من حصار فرضه عليه شارون في المقاطعة.
ولأن الإسرائيليين والأمريكيين بدأوا يراهنون على محمود عباس وقرروا
التخلص من عرفات, فقد أخذ الرئيس مبارك يوفق أوضاعه تدريجيا مع مستجدات
الساحة الفلسطينية.
وازداد قلق مبارك, بعد رحيل عرفات, من تزايد
نفوذ حماس والتي يعتبرها امتدادا لجماعة الإخوان المسلمين, خصوصا بعد فوز
هذه الأخيرة بحوالي خمس مقاعد من مجلس الشعب في الانتخابات التشريعية التي
جرت عام 2005, ثم راحت هذه المخاوف تكبر وتتضخم عقب فوز حماس بأغلبية مقاعد
المجلس الوطني الفلسطيني عام 2006, والذي فاجأ الجميع.
وهكذا راحت
تتبلور تدريجيا معالم أزمة بين مصر وحماس, بدأت كامنة ثم راحت تفصح عن
نفسها باشكال عديدة، إلى أن انفجرت عقب ما سمي بانقلاب حماس على الشرعية
وما تبعها من قيام مصر بالتجاوب مع حصار إسرائيلي فرض على قطاع غزة تم
بموجبه إغلاق معبر رفح, منفذ القطاع الوحيد إلى العالم الخارجي.
وهكذا
بدأت مصر, ولأول مرة في تاريخ القضية الفلسطينية, تصبح طرفا في صراع داخلي
وتنحاز إلى فصيل فلسطيني ضد فصيل فلسطيني آخر, مما يلقي بظلاله على دور
مصر، ليس فقط فيما يتعلق بتطور الأوضاع في غزة، ولكن أيضا بالنسبة لمستقبل
القضية الفلسطينية برمتها وربما المنطقة,