تابعت
كملايين المصريين ظاهرة الدكتور البرادعي والتي بدأت في العام الماضي حين
حل الرجل ضيفاً على أحد البرامج الحوارية في إطار استعداده لترك منصبه
كمدير عام للوكالة الدولية للطاقة الذرية حيث قال كلاماً صدم القيادة
السياسية في بلادنا في حين أنه أثلج صدورنا حين تحدث عن أحوال المصريين
المعيشية السيئة وتدني مصر في المراتب بين الأمم وهو الحديث الذي فصل فيه
وأجمل حين استضافه البرنامج ذاته وتابعه -بحسب التقديرات غير المؤكدة وغير
الحكومية- حوالي 40 مليون مصري .. واعتقد بالطبع أننا لو استطلعنا رأي
حملة المباخر لوجدنا أن احداً في مصر لم يشاهد البرنامج بالطبع !
ولا أخفيك عزيزي القارئ بأني أشعر أن الرجل لن يترشح لانتخابات الرئاسة
المقبلة وأن تلك الخطيئة الدستورية المسماة بالمادة (67) من الدستور
المصري -التسمية للفقيه الدستوري الجليل الدكتور يحيى الجمل- بالإضافة
لحالة الطوارئ التي تعيش فيها مصر منذ عام 1981 والتي تمنع تجمع أكثر من 5
أشخاص في مكان واحد ستحول دون ذلك إلى جانب استمرار حالة السلبية
واللامبالاة التي يعاني منها المواطن المصري.
ولكن هل عدم ترشح البرادعي يمكن أن يدفعنا إلى مزيد من اليأس والاستسلام
لحالة الركود بل والتخلف -يسميها حملة المباخر أزهى عصور الاستقرار التي
تعيشها مصر- وإلى أن يزداد عدد من يفضلون الهرب إلى الخارج عن محاولة
الإصلاح أو الانكفاء على الذات والابتعاد عن هذا الصخب؟ هل تقف الفكرة عند
مجرد ترشيح البرادعي كوجه جديد يخرجنا من حالى الاستقطاب بين الإخوان
الذين لن يتزحزحوا عما يعتقدون والنظام الذي لا يقبل مجرد وجود الإخوان
على وجه الأرض مما أصاب البلاد بحالة انسداد وتكلس سياسي؟ .. أقول لا.
فالرجل جاء ولم يقض في مصر إلا عدة أيام أجرى خلالها حواراً تليفزيونياً
واحداً وعدة لقاءات مع بعض القوى السياسية فأحدث ضجة واسعة شاء من شاء
وأبى من أبى، والتف المصريون حول شاشات الفضائيات يستمعون إليه ويقرأون
التحليلات بشأن ما قال ويتناقشون فيما بينهم حول مدى جديته في الترشح أمام
الوريث وما هي حظوظه في الفوز وغيرها من الأمور، وأخذ البعض يفكر - وأنا
منهم - في أن المسألة ليست في طرح اسم البرادعي كمرشح مقبول من كافة
الأطياف السياسية التي تحرص على مستقبل مصر -ليس الحزب الحاكم والأحزاب
المنتفعة من دعم حكومة هذا الحزب من هذه الأطياف بالقطع - ولكن الفكرة في
وجود شخص ذو ثقل دولي هائل ألقى حجراً ضخماً في الحياة السياسية المصرية
فأحدث موجات واسعة من التأثير لمسها الجميع.
وبمناسبة مسألة خبرات الدكتور البرادعي فإني حقيقة اشعر بغيظ وحنق شديد
كلما تكلم أحد ممارسي السلطة الأبوية على الشعب المصري وأصحاب النظريات
التي تطرح خلال تناول السيمون فيميه والمياه المعدنية في مكاتب فخمة
مكيفة، آخذا في الحديث عن نقص خبرات البرادعي السياسية وأن منصبه الدولي
لا يعطيه هذا الكم من الخبرات اللازمة لحكم دولة بحجم مصر وأنه مزدوج
الجنسية وأنه عاش سنوات طويلة خارج مصر ولا يدري شيئا عما يموج بداخلها من
أحداث وتغيرات، وكل ما سبق مرود عليه بالقطع، فإن كان الرجل الذي تولى
أخطر منظمة تابعة للأمم المتحدة رغم أنف الولايات المتحدة وإسرائيل ووقف
قدر استطاعته ضد خطط ضرب لعراق بحجة امتلاك أسلحة دمار شامل وجاب العالم
شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً محاوراً للقادة ومحاضراً في الجامعات، إن كان
كل ذلك غير كاف فهل الشخص الذي لا تتعدى حجم خبراته السياسية ربع عمر
الدكتور البرادعي يتحرك من خلال منصب تم تفصيله خصيصاً له هو الأقدر على
ذلك وهو من لم يلتق في حياته بعشر من التقى بهم الرجل من زعماء؟ هل من عاش
داخل مصر في برج عاجي لا يقدر على الالتحام بالناس ولا يتحرك إلا بمواكب
حراسة أسطورية تؤمن المكان قبل حضوره بأيام ولا يلتقٍ إلا بمن تم فحص
تاريخه وتاريخ عائلته مسبقاً هو من يعلم ما يعانيه الناس؟ ولا أحب أن أخوض
في مسالة ازدواج الجنسية التي نفاها الرجل جملةً وتفصيلاً فقبل اتهام
الرجل بأي شيء علينا أولاً تنقية ما يسمى بمجلس الشعب من مزدوجي الجنسية
ناهيك عن التحقق من حيازة بعض الوزراء وغيرهم لجنسيات دول أخرى!.
وفي الحقيقة فإن غاية ما أتمناه من الدكتور البرادعي أن يقود حملة لإفاقة
هذا الشعب من نوم وسبات عميق استمر لعقود، بعد أن وضعت على أعينه تلك
الأغطية التي توضع على أعين الماشية التي تدور لتحرك السواقي وهي لا تدري
أنها تسير في دوائر لا نهاية لها و لا مخرج لها منها لأنها لا تبصر
الطريق، فنحن نعمل نهاراً وليلاً لنوفر احتياجاتنا، وإذا ما فكرت في العمل
في السياسة فعليك أن تنسى تماماً أن تهنأ بحياتك أو أن تدخل سلك القضاء أو
الشرطة أو الخارجية أنت وأحفاد أحفادك إلى أن يأذن الله بتغيير الحال
عقاباً لك على فعلتك النكراء وتدخلك في أمور أكبر منك، في حين قد يلتحق
بهذه الوظائف من رسبوا عدة مرات في كلياتهم لا لشيء إلا للياقة الاجتماعية
والقدرة على اجتياز كشف (الواسطة)
أتمنى من الدكتور محمد البرادعي أولاً ألا ينضم إلى أي حزب من تلك الأحزاب
الموجودة على الساحة، فكل هذه الأحزاب تحصل على دعم من الحزب الحاكم الذي
يدفع لها الأموال ليشد من عضدها ويقوي من شوكتها لتنافسه في الانتخابات
على الفوز بتشكيل الحكومة وقيادة البلاد (طبعا من المفترض من جموع الأطفال
التي يحكمها هذا الحزب أن تصدق هذه النية الطيبة!) ولعل قصة النصف مليون
جنيه التي حصل عليها كل مرشح للرئاسة في 2005 ليتقوى بها أمام الرئيس
مبارك في سباق الانتخابات أبلغ دليل على أن هذه الأحزاب لا تصلح للبقاء
على قيد الحياة من الأصل، كما أن هذه الأحزاب ليس لها قدرة على حشد
المواطنين خلف قضية ما وهم من يفترض فيهم تمتعهم بالغطاء الشرعي، فيما لا
يخاف من هم غير شرعيون من النزول إلى الشوارع والالتحام بالناس وتحمل
عواقب ذلك من سجن وتشريد .. حقا إنها بلد المتناقضات.
أتمنى من الدكتور البرادعي أن يضع برنامجاً لا يهم أن يكون محدد المدة
بقدر ما يهم ما سينتج عن مراحله التي يجب أن تبنى على بعضها واحدة تلو
الأخرى، وأن يهدف هذا البرنامج إلى تعريف المواطن أنه ظل طوال عقود يعامل
معاملة العبيد سواء في أقسام الشرطة أو من خلال عقود الإذعان والذل التي
يوقعهما مقابل الحصول على خدمة ما او حق أولاده في الحصول على تعليم متميز
ورعاية صحية آدمية وأن يعلم ويوقن بأن هذه أرضه وأرض احفاده من بعده وليست
أرض السيد صاحب مصانع الحديد أو السيد الذي قدم لنفسه طلباً من ابنه
القاصر بتخصيص قطع أرض ليوافق بنفسه على الطلب الذي قدمه لنفسه، ولا أرض
مدينتي التي اشتراها سيادته بمال زهيد ليباع المتر منها للنخبة التي لا
نعلم من أين حصلوا على أموالهم بآلاف الجنيهات، ولا أرض الأمير السعودي
التي اشتراها بحفنة من أمواله فيما نحن نعمل 10 سنوات متواصلة للحصول على
شقة في مدينة جديدة نائية لا تزيد مساحتها عن 80 متر .. وبالتقسيط كمان!.
أتمنى من الدكتور البرادعي قيادة حملة لإعادة الوعي .. حملة لتبصير الناس
لما لهم وليس ما عليهم فهذه الأمور حفظناها من مرحلة العبيد .. حملة لحث
الناس على الإيجابية وترك مصمصة الشفاه والحديث في البيوت أو على المقاهي
فيما بيننا دون أن ينتج عن ذلك أي فعل إيجابي .. حملة يعلم الكل أن جهده
فيها لا يضيع وأن تعبه مجرد ضربة فأس في أرض بكر سيتمتع بخيراتها أبناؤه
من بعده .. إلا إن كنا نضن على أبنائنا بالمستقبل الذي حرمنا عقوداً من
التفكير فيه بإيجابية ودون خوف أو رهبة.
أتمنى أن يقود الدكتور البرادعي فريقاً من السياسيين المحترفين يتفق عليهم
الشعب ليشكلوا حكومة ظل تطرح حلولاً لمشاكلنا .. نريد وجوهاً جديدة لا تلك
الوجوه التي نشاهدها منذ ولدنا وحتى اليوم .. نريد أفكاراً وتناولاً
مختلفا للسياسة والاقتصاد والتعليم والصحة، لا أفكار من جعلونا في ذيل
الأمم (راجع وضع مصر في التقارير الدولية عبر هذا الرابط).. فنحن لسنا
بدعاً من الأمم حتى يظل السادة القابضون على رقابنا يرددون كلمات تافهة من
نوعية : المصريين غير مستعدين للديمقراطية .. المصريون شعب يصعب حكمه ..
مصر والمصريين لهما وضع وحالة خاصة تختلف عن باقي الدول .. الشعب المصري
همجي و لا يحكم إلا بالعصا ولا تجمعه إلا صافرة (اعتقد أننا نعرف جميعاً
أين تقال هذه الجملة الأخيرة).
أتمنى من الدكتور محمد البرادعي ألا يستجيب للضغوط ويحاول إنشاء حزب ..
فهو بذلك يحط من قيمته ومكانته الدولية بالإقدام على ارتكاب خطئية بالتوجه
إلى ما يسمى لجنة شئون الاحزاب التي يقوم عليها السيد الأمين العام للحزب
الوطني (والنبي فيه مسخرة أكتر من كدا!! تاخد إذن من الحزب الحاكم علشان
تعمل حزب معارض ليه ينافسه في الانتخابات علشان يحكم البلد بداله في يوم
من الايام !!) باعتبار أن السيد صفوت الشريف يستطيع الفصل تماماً وبكل
اقتدار بين مركزه الحزبي وبين رئاسته لتلك اللجنة.
أتمنى من الدكتور البرادعي أخيراً ألا يتحرك إلا إذا بدأ الناس يتحركون
معه .. فالشعب الذي يريد أن تأتي إليه الحرية والديمقراطية على طبق من ذهب
دون جهد وعرق وعناء وتضحية من الأفضل له أن يظل هائماً على وجهه يلعن
الظلام إلى الأبد دون أن يفكر أن يشعل شمعة.
إذا الشعب يوماً اراد الحياة .. فلا بد أن يستجيب القدر ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر .