يقول العالم الكندي "يانيش فيلديو" ان الدماغ البشري مدهش ومحير الى ابعد الحدود وبسبب التعقيد الخيالي الذي يتصف به لن يستطيع ان يعقل ذاته ولكن الامل الوحيد هو قدرته على تجاوز الاخطاء واصلاح نفسه .

اثبت العالم الامريكي "روجر سبيري" بالبحث أن كل نصف من الدماغ متخصص فى أعمال معينة وانه لاصحة للتصور القديم القائل بتفوق النصف الايمن من الدماغ وهيمنته عليه، بل كل منهما يقوم بدوره المخصص رغم اداء النصفين لاعمال مختلفة كليا فى ضرب من التعاون والتكامل من اجل السيطرة على جميع الانشطة الفكرية والجسدية والنفسية .
أوضحت اعمال "سبيرى" ان النصف الايسر من الدماغ متخصص بعمليات الادراك والتحليل والاتصال وخاصة عملية الكلام التي تعتبر اهم وظيفة انسانية ، اما النصف الايمن فيقوم بدور العمليات الحساسة والدقيقة مثل التمييز بين الاشكال وتذوق الفنون الابداعية والاحساس بالجمال وغير ذلك من الوظائف الحساسة الرائقة .
كأن يميز بين صورة صديق وعدو او يتذكر صورة الشخص من خلال الملفات التي يختزن فيها ملايين الاسماء والصور والعناوين كأن يتذكر مثلا ان هذه الصورة رآها منذ مدة معينة وان هذه الرائحة شمها فى المكان الفلاني لما كان معه شخص معين يذكره بالتاريخ والوقائع ..
ان قضية الفهم والاستيعاب رغم سرعتها وتعقيدها ترتبط ايضا بأنشطة اعصاب الدماغ وقدرتها على تزويدنا بالانفعالات المختلفة كالسرور والحزن والالم والندم .
لقد كشفت الدراسات ان هذه الانشطة محكومة بعمل الذرات الكهربائية التي ترسل مواد قادمة عن طريق الخلايا التي تحول الطاقة الكيميائية الى طاقة كهربائية تشحن بها نفسها واذا اثيرت بأي مؤثر تفرغ شحنتها وتنطلق منها نبضات كهربائية خفيفة ترسلها الى جاراتها او ترد بها على رسالة قادمة من جزء ما من الجسم فى وقت سريع جدا، ثم تعيد شحن نفسها لاستعمال هذا المخزون وقت الطلب والحاجة ، وهذا الميكانيزم المذهل يشير الى اسرار عظيمة فى كيفية احتفاظ الخلايا بالمعلومات عن طريق التعلم التجريبي واسترجاعها فى وقت الحاجة ايضا.
ان الدماغ البشرى الذي لا يتجاوز وزنه ثلاثة ارطال عند البالغين يحتوى على حوالي مائة بليون خلية عصبية كل واحدة منها ترسل حوالي الف شعيرة دقيقة جدا الى الخلايا الاخرى تتلامس وتتصل ببعضها وهذه الخلايا متشابهة جدا من حيث الشكل ولكنها مختلفة من حيث المضمون والاختصاص ، فهنأك تخصص رهيب فى مناطق المخ المختلفة وتجدد مستمر فى الاعمال والوظائف والموت والحياة ايضا وقد كان يظن سابقا-حسب ما قررته كتب الجراحة القديمة - ان الطفل يولد مكتمل المخ ، وان بالمخ عددا ثابتا ومحددا من الخلايا تبدأ فى الموت بالتدريج مع بلوغ سن الخمسين ، وكان هذا يعنى ان خلايا المخ غير قادرة عل صيانة نفسها وتجديد خلاياها ولكن بعض النتائج اثبتت ان خلايا المخ تتجدد شأنها شأن كل خلايا الجسم ، وقد لاحظ العالم الامريكي " نوتن" بجامعة روكفلر ان خلايا لحاء القشرة الخارجية لمخ الطيور تنمو وتتبدل كل سنة وبذلك تتعلم ان ما جديدة تشدو بها فوق الاغصان .
انعاش مباحث الفلسفة :
لقد اسهمت الحركة العلمية الخاصة بالبحث فى اسرار الدماغ والعقل فى انعاش مباحث الفكر الفلسفي وتوجيه قضاياه فقد اخذت حدة الجدل تتصاعد حول ما اذا كان العقل يعنى شيئا آخر غير المخ ، وقد كان العالم الامريكي "بنفيلد" اول من بشر بهذا الافق من التمييز من خلال العمليات الجراحية التي قام بها على ادمغة ما يربو على الف مريض فى حالة الوعى والتي نشر آثارها الكاملة فى كتابه المثير " غرائب العقل ".
اكتشف "بنفيلد" بمحض الصدفة ان تنبيه مناطق معينة فى الدماغ بالكهرباء يحدث استرجاعا فجائيا للذاكرة عند المريض الواعى فأخذته الدهشة وكرر التجارب عدة مرات ، وعندما لامس الالكترود "آلة الكهرباء" قشرة مخ شاب تذكر بسرعة انه عندما كان صغيرا شاهد لعبة البيسبول فى مدينة صغيرة وانه راقب ولدا صفيرا يزحف تحت السياج ليلحق بجمهور المتفرجين .
استنتج "بنفيلد" من خلال عشرات التجارب أن آلية الكلام ليست متماثلة مع العقل وان كانت موجهة منه ، فالكلمات هي ادوات تعبير عن الافكار ولكنها ليست الأفكار ذاتها، وان عمل العقل ليس آليا، يقول فى كتابه غرائب العقل أدان عقل المريض الذي يراقب الموقف بمثل هذه العزلة والطريقة النقدية لابد من ان يكون شيئا أخر يختلف كليا عن فعل الاعصاب اللاإرادي ومع ان مضمون الوعى يتوقف الى حد كبير على النشاط العصبي فالادراك نفسه لا يتوقف على ذلك ".
وباستخدام اساليب المراقبة استطاع " بنفيلد " ان يرسم خريطة كاملة تبين مناطق الدماغ المسؤولة عن النطق والحركة وجميع الحواس غير انه لم يكن فى المستطاع تحديد موقع العقل او الارادة في اي جزء من الدماغ ، فالدماغ هو مقر الاحساس والذاكرة والعواطف والقدرة على الحركة ولكنه ليس مقر العقل أو الارادة فواضح اذن ان العقل البشرى والارادة البشرية ليس لهما اعضاء جسدية .
ومن العجيب ان "بنفيلد" ادخل مفهوم الروح الى العلم عندما قرر انه "اقرب الى المنطق ان نقول ان العقل ربما كان جوهرا متميزا ومختلفا عن الجسم ".
ومن دواعي السخرية ان "بنفيلد" بدأ تجاربه بهدف اثبات العكس تماما فقد ذكر انه طوال حياته العلمية سعى جاهدا كغيره من العلماء الى اثبات ان الدماغ يفسر العقل غير ان الادلة حملته على الاقرار بأن العقل البشرى والارادة البشرية حقيقتان غير ماديتين ويقول فى النهاية ... "ياله من امر مثير ان نكتشف ان العالم يستطيع بدوره ان يؤمن عن حق بوجود الروح ".
وقد اثرت هذه الابحاث فى حركة علم النفس الحديث وغيرت من انشطته المختلفة فقد اصبحت مباحث الاحاسيس والمشاعر والافكار ينظر اليها بوصفها عوامل ذات اهمية كبيرة فى وظيفة الدماغ وعمل السلوك ولم تعد تعامل بوصفها جوانب ثانوية او غير موجودة .
ويبدو ان مثل هذه القضايا ستظل على الدوام بعيدة عن التمحيص التجريبي، ولكن يكفى هذه المباحث ان تسلط الضوء اللامع على مجموع الفعا ليات التي تشكها مناطق الدماغ على امل الوصول الى بعض اسرار اكثر الظواهر العصبية روعة على الاطلاق والذي ينبثق عن تلك الفعاليات الموصوفة الا وهو العقل