مصر عادت أمي
لم أكن أتصور أن قلبي يتسع لكل هذه الفرحة. ثمانية عشر يوماً ونحن نسير على طرقات النار التي أشعلها الطاغية تحت أرجلنا.
ثمانية عشر يوماً ونحن في مصر نحلم بأن ينزاح الكابوس ويتركنا نعيش ونبني بلدنا.
ثمانية عشر يوماً وهو يعاند ويكابر ويناور ويداور ويستخدم كل وسائل الخداع.
ثمانية عشر يوماً ونحن ننام على الثورة وعليها نصحو. نبيت على الأمل ونستيقظ ونحن نرجو أن يفهم وأن يحس وأن يدرك أنه اصبح مكروهاً على نحو غير مسبوق وممقوتاً كما لم يحدث لأحد قبله ولا حتى شاوشيسكو أو فرانكو أو ماركوس.. فكل واحد من هؤلاء على سوئه كانت له حسنات..
أما هذا فلم يفعل طيلة ثلاثين عاماً سوى التخريب المنظم لكل شيء وأي شيء في مصر.
لقد كنا لفرط اليأس نظن أننا سوف نحتاج بعد موته لمائة عام حتى نتخلص من آثاره وما أفدحها ومن بصماته وما ألعنها لأنه أصاب مصر في أعز ما تملك.
كنا نقول إن اليابان وألمانيا قد تدمرتا تدميراً كاملاً في الحرب العالمية الثانية، لكنهما عادتا لتقفا على الأرض من جديد وتحقق كل منهما إعجازاً من حيث التقدم وعبور الماضي بفضل شيء واحد وهو أن بنيتهما التحتية قد خربت تماماً ولكن بنيتهما الفوقية وهي البشر ظلت على تفوقها ورقيها وبهذا استطاعت ان تخرج من تحت الركام وتبهر العالم.
وكنا نقول إن مصيبتنا أفدح من مصيبة ألمانيا واليابان لأن عدو مصر الذي اعتلى السلطة فيها هدم البنية الفوقية وحطم الإنسان من الناحية البدنية والصحية وأصاب وعيه ووجدانه في مقتل وفرض عليه الهيافة والسخافة وأفقده الشعور الوطني والحس الإنساني وجعل كرة القدم هي جل اهتمامه وخرب تعليمه فأصبحت المدارس والجامعات تخرج أميين، وغيّر بوصلة الوطنية فجعل الصهاينة أصدقاء وحارب كل معاركه ضد العرب والمسلمين.
كنا ننظر للسفن التي تغرق على سواحل ايطاليا واليونان وهي تحمل المهاجرين غير الشرعيين من المصريين الذين يحاولون الفرار من الجحيم، ويؤثرون الموت المحتمل على الحياة الذليلة في وطن أصبح خرابة..
كنا ننظر ونبكي من الحسرة لأن الطلاينة واليونانيين كانوا في السابق هم الذين يأتون لمصر من أجل العمل والحرية والأمان. كنا ننظر بحسرة لهجرة العقول وهرب المتميزين والمتفوقين بعد أن أدركوا أن الحاكم يزدريهم وينظر اليهم بتوجس ويفضل عليهم الجهلة والأغبياء..
كنا ننظر ونغرق في الحزن لعلمنا أنه يكره الأذكياء ويعمل على حصارهم ويرحب بالأغبياء حتى يشعر بالتفوق بينهم.
كنا نراه وهو يقرب المجرمين ويبسط عليهم حمايته ويضطهد الشرفاء ويشردهم.
كنا نراه يختار أعوانه من الوزراء والمحافظين على ضوء معيار بالغ الشذوذ وهو إصراره في شغل كل منصب يشغر على اختيار صاحب الملف المتخم بالجرائم وخاصة جرائم الاستيلاء على المال العام، وفي المرات المحدودة التي نجحت فيها بعض الشخصيات العادية التي لا يجري الإجرام في عروقها في المرور بدون قصد كان يقصيهم في أقرب فرصة!
لهذا كله كنا نظن والأسى يعتصر قلوبنا ان التغيير والخروج الى فضاء الحرية والتقدم والعدل بعيد بعيد بعيد..
صحيح أنني ككاتب لم أنشر اليأس أبداً بين الناس وكنت أسعى الى نشر الأمل في النفوس، لكنني في داخلي كنت شديد الحزن على وطني الذي كسّحه وأقعده وأعجزه عن ان يثور مطالباً بحقوقه..
حتى عندما انتفض الأحرار في تونس كنت أظن أننا لن نحظى بثورة مماثلة لأن حجم التخريب في مصر أضعاف ما لحق بتونس من تخريب.
والحقيقة أن فرحتنا الطاغية باندلاع الثورة كان مرجعها الى أننا لم يخطر ببالنا أننا نمتلك كل هذه الارادة وكل هذا العزم. لم نكن نظن ان شبابنا لديهم كل هذا الوعي وكل هذا الإصرار والاستعداد لبذل الدم..
وهذا لعمري من أغرب الأشياء التي كانت عصية على تفكيري..
اذ من أين لهؤلاء الشباب بكل هذا الوعي وقد انهار التعليم وظلت وسائل الإعلام تطفح قاذورات في وجوههم طوال ثلاثين عاماً؟
من أين لهم بكل هذا العزم وقد لوث ماءهم وطعامهم وأصابهم بالأمراض؟
من أين لهم بكل هذا الإيثار والرغبة في التضحية وقد زرع في الناس الأنانية وجعل لقمة العيش مرتبطة بالخسة والنذالة والسلوك الوضيع؟
من أين لهم بكل هذه الأخلاق الرفيعة التي جعلتهم يرتفعون فوق الآلام ويعلون على الجراح ويظلون على إصرارهم بأن تكون ثورتهم سلمية حتى عندما أطلق عليهم الرصاص الحي والقنابل وأطلق عليهم الخيول والجمال والبغال مع راكبيها من الدواب الذين تسلحوا بالمدي والسيوف وقنابل المولوتوف؟ ومن أين لهم بكل هذا التحضر الذي جعل ميدان التحرير وسائر أماكن التظاهر بالمدن المصرية هي آيات في النظافة.. نظافة المكان ونظافة السلوك وهم الذين أغرقهم الحكم في مشاكل القمامة التي كانت ترتفع كالجبال بالشوارع دون ان تجد من يرفعها؟
لهذا كله فقد أصابت الثورة العالم كله بالذهول.. بل إنني أجازف بالقول إنها فاجأت الشباب الذين قاموا بالثورة أنفسهم حيث لم يكونوا يتصورون كل هذه القوة والروعة التي ميزت تحركهم طوال أيام الثورة.
و هذا يؤكد أن هذا الشعب العبقري يمتلك مخزوناً حضارياً لا ينفد، ومنابع للعظمة لا أعرف حقيقة من أين تأتي.
ويكفي ان العالم كله قد أبصر النظام النازي يطلق الرصاص على الرؤوس وفي سويداء القلب ويفعل بالشباب الحر البريء ما لم يفعله هتلر وموسوليني ونيرون من أجل البقاء في الحكم واجهاض الثورة وإطفاء فرحة الناس بالنصر الذي لاحت بشائره.
لقد أثبتت السلطة في معالجتها للأحداث ان البلادة والتكلس والعفن التي ميزت ثلاثين سنة من الحكم هي التي سادت إدارة الأزمة حتى بدأ الناس يظنون أن هذا الرجل لا يعيش معنا على هذا الكوكب..
كل الناس ترفضه وهو بطانته يقولون: وماذا يعني خروج عشرة ملايين من شعب قوامه ثمانون مليوناً من البشر! أرأيتم السماجة والنطاعة وانعدام الإحساس؟
لقد كاد الرجل يصيب الناس بسكتة قلبية في كلمته الثالثة والأخيرة عندما تواترت الأنباء عن أنه سيعلن تنحيه فإذا به يخرج على الناس بكلام بارد ظل يردده منذ ثلاثين سنة بلا انقطاع..
لقد صرخ الناس في كل مكان على أرض مصر بعد انتهاء كلمته من فرط الهستيريا التي دفعهم الرجل اليها.. بل إن هناك الآلاف الذين سقطوا مغشياً عليهم من ارتفاع ضغط الدم بسبب الكمد والغيظ، وهناك الملايين الذين بكوا بحرقة وهم يرون الصورة تمضي نحو الحريق الهائل الذي يريده الحاكم من أجل البقاء لستة أشهر أخرى يقوم خلالها بترتيب أوضاعه.
لقد قدمت منذ ثلاث سنوات كتاباً اسميته «مصر ليست أمي.. دي مرات أبوياً» قصدت به أن مصر التي يحكمها سادة الجريمة المنظمة لا يمكن أن تكون أمي.
لكن اليوم بعد أن عادت مصر للمصريين وسقطت العصابة الإجرامية أستطيع أن أقول بحق إنمصر عادت أمي.
أسامة غريب