بسم الله الرحمن الرحيم


المحنة والابتلاء..اختبار أم عقاب؟


أنّ الابتلاء هو عبارة عن الاختبار وكشف الحقيقة الكامنة في ذات الإنسان عن طريق المحن والشدائد والآلام والتكاليف وأنواع البلاء من جهة، وعن طريق النعم وسعة العيش وتوفير القوّة والمال والسلطة والجاه من جهة أخرى، إذا عرفنا ذلك، فلنعد ثانية لقراءة الآيات التي تحدّثت عن البلاء والمحنة، ولنقف على ما اختزنته من تشخيص وقراءة لذات الإنسان، وكشف عن أعماقه، وبيان لما ينبغي أن يسير عليه وينتهجه حين البلاء وعند التعامل مع وسائل الاختبار والابتلاء.

إنّ القرآن يؤكد من خلال آياته تلك عدّة حقائق أساسية هي:

1 ـ إنّ الابتلاء والاختبار سنّة إلهيّة، ولابدّ للإنسان من أن يمر بحالة من حالات الاختبار والابتلاء الفردي أو الجماعي، وعليه أن يعد نفسه، ويهيئها لذلك الاختبار، فلا يفاجأ، ولا يستولي عليه الاهمال والامهال.

قال تعالى:

(الَّذِي خَلَقَ الموتَ والحَياةَ لِيَبلوَكُم أيُّكُم أحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ ) (الملك / 2) .

(أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُترَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنونَ وَلَقَدْ فَتَنّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذِبِينَ ) (العنكبوت / 2 ـ 3) .

فالحياة ساحة اختبار ومجال للكشف عن حقيقة النفس ومحتوى الذات، ليعرف الصادق من الكاذب المدّعي، ذلك لأنّ الحياة مسؤولية وجزاء، ولا يمكن أن تحدّد المسؤولية، ويستحق الإنسان الجزاء إلاّ بعد المرور بمرحلة الاختبار والامتحان، وعند ذلك تنكشف حقائق الناس لأنفسهم، وللآخرين، فيبدون على حقيقتهم من غير حجاب ولا ستار.
إنّ حياة الرخاء والسعة والاستقرار تغطي حالة الضعف، وتستر نواقص الإنسان وخفاياه الكامنة، وتظهر حين المحنة، وفي ساعة العسرة والشدّة والاختبار الصعب، لذلك يؤكد القرآن أنّ ادعاء الإيمان والمبدئية، وحمل شعار المسؤولية والاخلاص لله وللمبادئ والشكلية الظاهرية ليس بكاف لتصديق المدّعي، ولا يترك الناس على ما هم عليه حتى يختبرهم الله ويعرّفهم لأنفسهم وللناس ى الآخرين، وكم تساقط اُناس في ساحة المحنة، وكم هوت شخصيات وكيانات وكبت في ميدان الامتحان، شخصيات كان الناس يعدّونها قمماً وطلائع وقدوة للآخرين.

2 ـ إنّ الله بعدله وحكمته جعل الاختبار والابتلاء بمستوى الاستطاعة البشرية، ولا يختبر الله الإنسان إلاّ بما وهبه وأعطاه من طاقات وامكانات، لذا ورد في القاعدة المأثورة: «إذا سلب ما وهب فقد سقط ما وجب».

والقرآن يوضّح هذه الحقيقة، ويكشفها بوضوح وجلاء بقوله: (.. لِيَبلُوَكُمْ فِيما آتاكُم.. ) (المائدة / 48 ) .

إنّ الاختلاف في التكاليف وألوان الاختبار والابتلاء والمحن تستهدف اختبار الناس بما أعطوا وأوتوا من النعم والطاقات والامكانات، فالعالم يختبره الله بما أعطاه من علم ومعرفة، يختبر بكيفية استخدامه للعلم والمعرفة، وكيف يتعامل مع الناس بعلمه، هل يستغل علمه لتدمير البشرية وإذلالها وانقيادها، أم يستخدمه لخير الإنسان وانتشاله من الظلمات إلى النور؟ وهل يملأ هذا العلم نفس صاحبه بالغرور والتكبّر والاستعلاء على الآخرين وعلى خالقه؟ أم يملأ جوانحه نوراً وهدىً وتواضعاً؟ وهل يوظّف علمه للدعوة إلى الهدى وتعليم الإنسان سبل الرّشاد؟ أم يستخدمه للنصب والابتزاز وجمع المال والارتزاق وطلب الزعامة والوجاهة الزائفة؟ فيحط قيمة العلم وأهدافه النبيلة، ويحوله إلى أداة تافهة بعيدة عن دور العلم ومسؤوليته الأخلاقية والعملية في الحياة، وصاحب المال يختبره الله بما أعطاه من مال وخيرات، وتنكشف حقيقته وسلوكيته حين الغنى وامتلاك الثروة، فمن الناس من إذا ملك المال طغى وتكبّر وجرّه ماله إلى الفساد والانحطاط والجشع والاستغلال، فتراه يتقلّب في المعاصي، ويستخدم النعم التي وهبها الله له في الجريمة والفساد وظلم الناس، في حين يوظف صنف آخر ما وهبه الله من مال في طاعة الله، وفعل الخير واصلاح المجتمع، وخدمة الإنسان.

وكم من الناس، الذين يعملون في حقل السياسة والعمل الاجتماعي، تراه ينادي بالأمن والسلام وحرّية الآخرين، وحقوق الإنسان ونصرة الضعيف والمظلوم.. الخ، إلاّ أنّه يتحوّل إلى وحش كاسر وسلطة ارهابية، ومخلوق عدواني ظالم إذا ما تسلّط على الآخرين، ورأى نفسه فوقهم، واستطاع أن يتصرّف بأمورهم ومقاديرهم.

إنّ حقيقة الإنسان الخيّرة والشرّيرة لا تعرف بالادعاء والظواهر، وعند فقد إمكانية الظلم والتسلّط والاستمتاع المحرم والاستغراق في حبّ الدنيا والعجز عن ممارسة العدوان والمعصية، ولكنّها تعرف عندما يملك الإنسان القوّة والسلطة والجاه ووسائل المتعة، وعندما يواجه المواقف وحالات الاختبار الصعب.