لا شك أن الثورة الناعمة على النحو الذى قامت به فى تونس ثم فى مصر أنجزت مساحة كبيرة من التغيير باستخدام وسائل وآليات سلمية وتقنيات حديثة أهمها طرق التخاطب الاجتماعى الفيسبوك وتويتر ونحو ذلك، وهو ما عجزت عن تحقيقه جماعات وفصائل إسلامية دخلت فى مواجهات مسلحة مع أنظمة الحكم فيها. هناك اختلافات كثيرة تُمايز بين الطريقتين يمكن رصدها تاريخيا وأيديولوجيا يلزم بيان وجه الرأى فيها حتى لا يختلط الحكم.. لكن لا ينبغى أن نقع فيما وقع فيه كثيرون من عدم الإلمام بالتجارب السابقة والانطلاق من حيث انتهى الآخرون.

ينبغى أن نحيىّ كل الثوار الذين عملوا فى مناخات القهر والاستبداد والسجون والمعتقلات والذين وصفتهم أنظمة الحكم المستبدة بالإرهابيين.
ونحن نعى ضرورة إسقاط فرضية استخدام العنف لتحقيق الأهداف لا بد أن نؤكد نضالية الأداء من خلال خطاب دعوى راشد قوى يلتزم بآداب الإسلام وضوابطه فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

إن أى خطاب دعوى إصلاحى كما ينبغى أن يتحرر من منطلقات العنف فإنه أيضا مطالب ألا يحلق فى سماوات أنظمة الحكم والسلاطين.

فالفترة التى دخلت خلالها فصائل من الحركات الإسلامية فى مواجهات مسلحة وقع التباس كثيف حال دون تقصى الحقيقة فيما جرى، بعض تلك الفترات والبلدان التى شهدت مثل تلك الأحداث يمكن القول أن بعض هذه الفصائل قاتل النظم الحاكمة منطلقا من باب «دفع الصائل» وهو الدفاع الشرعى الخاص دفاعا عن النفس والعرض والمال.

ينبغى أن نعترف ونحن نُسوق نظرية «التغيير السلمى» أن الجديد ليس هو «السلمية» لأننا منذ عدة عقود نتظاهر أمام هذه الأنظمة بطريقة سلمية دون أن تتمخض تلك المظاهرات عن أى نتيجة..! الجديد هو أن الجماهير أصبحت لديها إرادة قوية وعزيمة صلبة على إزاحة هذه الأنظمة وأيقنت أنه بإمكانها النجاح فى ذلك بعدما تعلمت الدرس من تونس. هذه الإرادة والعزيمة الجادة فى التغيير هى التى جعلت المجاهدين يحملون السلاح ويخرجون على هذه الأنظمة.

وهنا تحديدا يحسن أن نفرق بين «الجماعات» التى فرض عليها القتال دفاعا عن النفس والمال والعرض وبين غيرها ممن ولغ فى قتل المدنيين بالبطاقة الشخصية أو الهوية، هناك نقطة أشار إليها أحد الباحثين مؤخرا – أظنه د.عبدالباسط حسن – أنه ليس صحيحا أن الثورات العربية جاءت سلمية، بل إن الجماهير المتظاهرة استخدمت القوة فى مواجهة الشرطة حتى أنهكتها وغلبتها فى نهاية الأمر ثم قامت الجماهير بحرق مراكز الشرطة ومقرات النظام حدث ذلك فى تونس وحدث فى مصر ويحدث فى ليبيا..

انقسمت الحركة الإسلامية إلى فصيلين كبيرين: أحدهما جهادى يرى ضرورة الصراع مع ما هو قائم، والآخر إصلاحى ولعل وقفة مع مصطلح «الإصلاح» تضيف بعدا آخر للصورة، فقائمة المصطلحات التى تستخدم للتعبير عن الانتقال من حال إلى حال مثل: التغير، التغيير، التداول ،.... تظل مصطلحات إجرائية محايدة أخلاقيا لا تحدد ملامح الوضع الذى يراد الانتقال إليه، بينما ينفرد مصطلح الإصلاح بينها جميعا بظلال أخلاقية ودينية واضحة، فهو «عمل يستهدف نقل فرد أو مجموع من حال فساد إلى حال صلاح، أو من حال صلاح إلى حال أكثر صلاحا».

غير أن مما جعل للمصطلح وقعا سلبيا فى نفوس الفصيل الأصولى من الحركة الإسلامية تلك الحالة المتردية داخليا وذلك القدر من القمع الذى كانت تواجه به كل الأصوات المعارضة إصلاحية كانت أو مجاهدة، وإذا كانت شرائح واسعة من النخبة السياسية قد ارتكبت خطأ تاريخيا بأن ردت على العنف الأصولى بمواقف استئصالية وصل بعضها فى تطرفه حد التنكر لفرض الجهاد، فإن الحركات الأصولية هى الأخرى ارتكبت خطأ تاريخيا مماثلا بالغض من شأن النهج الإصلاحى ومن ينهجونه، إذ لم تر فيه سوى مهرب فرضه الجبن وخوار الهمم. ومع استحكام حالة التدابر والتقاطع بين حملة كل لواء بدت الفكرتان متعارضتين بينما هما فى الحقيقة تجتمعان فى إطار تراتبى.

نعود مرة أخرى للموضوع.. فالثورة الناعمة أنتجت وسائل التغيير السلمية وضمت إلى ميادينها نوعيات وشرائح شعبية لم تشارك من قبل فى مثل هذه الاحتجاجات، واستمالت دعم القوى الدولية بفضل كاميرات الهواتف وموقع يوتيوب، أفلام وصور شكلت الحافز لاستمرار الثورة ودليل سلميتها ومشروعيتها، ما وضع نهاية لتضليل الإعلام الحكومى ومؤامرات الأنظمة التى طالما خوفت المجتمع الدولى من بعبع اسمه المتطرفون. وفى كثير من التجارب الماضية نجح الثوار فى المرحلة الأولى فى إسقاط الطاغية وأخفقوا فيما بعد – مثلا: الثورة الشبابية فى أوكرانيا أطاحت بالدكتاتور ولكنها لم تنجح فى تحقيق أهدافها. بل عاد حزب السلطة المطرود للسلطة فى انتخابات 2010م. ونجحت ثورة جورجيا فى مرحلتها الأولى ولكنها أخفقت فى تحقيق مقاصدها. فهل نحن قادرون على اجتياز العوائق التى يمكن أن ُتجهض ثوراتنا العربية؟