فرسان الوقت الضائع
 فرسان الوقت الضائع Version4_Egypthands_340_309_

لا شك أن انتصار ثورة 25 يناير علي الطغيان في مصر قد مثل محطة فارقة في حياة الأمة بأسرها، فهذا الانتصار لحظة من لحظات التاريخ الفريدة التي تجلت فيها الكثير من المشاهد والمواقف المؤثرة والمليئة بالعبر، فقد أحدثت هذه الثورة المباركة فرزا منقطع النظير في حياة المصريين والعرب والمسلمين جميعا، فلقد كان انتصار هذه الثورة أكبر من كونه إسقاطا لنظام مبارك الاستبدادي، فهو سقوط وانهيار لحقبة بأسرها، بكل ما فيها من رموز ومفاهيم ومبادئ وأساليب ونظم، سقوط لرموز الفساد والطغيان والاستبداد والعناد، في شتى الميادين، في السياسة والإعلام والاجتماع والدين والدعوة والاقتصاد، وحتى في الفن والرياضة!.
لقد كانت هذه الثورة وتحولاتها الدرامية، ورد الفعل المتعنت من نظام مبارك والذي يتماشى مع عقلية الاستبداد وقانون الطغاة، سبب في كشف كثير من الحقائق المخفية في المجتمع المصري، وهي أمور وحقائق، كان من الممكن أن تظل طي الكتمان وخلف الأستار، إذا لم تقع مثل هذه الثورة المباركة بكل تجلياتها وتحولاتها القوية.
 فرسان الوقت الضائع Version4_1_1040693_1_34
فالثورة المصرية شأنها في ذلك شأن الأحداث الكبيرة والنوازل العظيمة في حياة الأمة، هذه الحوادث أشبه ما تكون بالزلزال الضخم الذي يغير جغرافية المكان الذي وقع فيه، فالثورة قد أعادت رسم خريطة النفوس والعقول والأفكار والنظم في مصر وما حولها، ومن يتعامل معها، والعجيب أن هذه المشاهد لها نظراء عبر التاريخ الإنساني عموما والإسلامي خصوصا، بل تكلم عنها القرآن الكريم في عدة مواضع، وكانت هذه الثورة المباركة أوان ترجمة هذه المعاني السامقة في تجربة عملية علي أرض الواقع.
ألم نكن معكم؟!
ومن الأمور التي أفرزتها الثورة ونري تداعياتها كل يوم في مشهد هزلي، يجمع بين الضحك والرثاء، هذا التحول الكبير والسريع لأشخاص وفئات وجماعات وهيئات، كانت منذ أيام قلائل، تلعن الثورة وشبابها وتصفهم بالخيانة والعمالة والبلطجة والتخريب وشرب المخدرات ممارسة الفواحش، وأنهم قلة مندسة وجماعات مأجورة وأصحاب أجندات خاصة، وتسبح بحمد الطاغية وتثني علي مآثره وتدعوه للبطش بالخوارج والمجرمين الذين خرجوا على الشرعية وولي الأمر، وتدافع عنه بأشد الدفاعات، أصبحت اليوم وقد انقلبت الآية، وتغيرت العناوين، وتبدلت المقاعد، فالشباب قد أصبحوا الأبطال الأحرار الشجعان الذين خلصوا البلاد من الفساد والطغيان والاستبداد، وتصفهم بالطهر والعفاف والإخلاص والوطنية، وفتحت لهم قنوات التلفاز ووسائل الإعلام المنابر للتعبير عن رأيهم وسبب ثورتهم، والعجيب أنها نفس المنابر التي كانت تلعنهم وتسبهم منذ أيام قليلة.
هذا التلون والتحول الكبير من خندق المؤيدين لخندق المعارضين، ومن القادحين إلي المادحين، قد جلاه الله عز وجل لنا في محكم التنزيل وهو يصف لنا حال المنافقين وهم يتلونون مثل الحرباء، حسب ما يصيب المؤمنين، فمواقفهم واختيارهم تتحرك مثل البوصلة، مع الغالب والمنتصر، فقد قال الله عز وجل في سورة النساء :[الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم، وإن كان للكافرين نصيب عليكم قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين .. إلي قوله مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا] النساء من الآية 141 حتى الآية 143.
 فرسان الوقت الضائع Version4_1_1038208_1_34
هذه النفسية المتلونة والمتنقلة لا يعرف صاحبها إلا وقت الشدة ونزول المحنة التي تكشف عن مكونات صدور هؤلاء المتسترين بلحاف النعم والعافية، والذين يسيرون دائماً في ركاب المنتصر، فهم تبع لمن غلب، فلا مبادئ ولا أخلاق ولا مثل، الثبات على المبدأ عندهم هو محض غباء وسذاجة، بل الثابت على مبدأه عندهم معدود في جملة المغفلين والحمقى، واحد من هؤلاء المتلونين ظل عمره كله يطبل ويزمر للنظام، حتى ظن أن له حظوة، فتدلل فنال قلما ساخنا وأقعدوه في بيته بجوار زوجته وقرينته في تلميع الديكتاتور، ولما احتاج إليه النظام الفاسد إلي بعض أوراقه القديمة في أثناء اشتعال ثورة الشباب، تم استدعائه يوم السبت 29 يناير ليعاود دوره القديم في تلميع بطل الضربة الجوية، وظل حتى يوم الخميس 10 فبراير يدعو لانفضاض المظاهرات وإخلاء ميدان التحرير وعودة الثوار إلي بيوتهم، ولما تيقن أن ديكتاتوره المفضل قد ولي هاربا، خرج في اليوم التالي مباشرة علي الشاشات يبكي ويذرف دموع التماسيح على الظلم والقهر الذي تعرض له في نظام مبارك، علي الرغم من كونه وزوجته وأخيه الكبير من أهم أعضاء الحملات الإعلامية لمبارك وزوجته، فأي تلون مفضوح، وأي كذب مكشوف، وأي نفسية عفنة تقدم علي مثل هذا التحول الانقلابي!، ولكنها السنن، سنة "ألم نكن معكم".
فرسان ما بعد المعركة
ومن الأمور التي أفرزتها هذه الثورة المباركة أيضا، ما رأيناه من فرسان قد نزلوا الساحة بعد انتهاء المعركة وسقوط الطاغية، هؤلاء الفرسان الذين يفضلون دائما القتال في الميدان الخالية؛ حيث يخرجون من جحورهم بعد الإعصار، يخرجون بعد أن أمنوا علي أرواحهم ومناصبهم وزعاماتهم ودنياهم، ليلوحوا بحدهم وحديدهم وأسلحتهم الخشبية في وجه الخواء، ويتشحون بلباس الشجاعة والجسارة، لينالوا من غنيمة القتال، ويركبون على أكتاف المجاهدين الشرفاء الذين قاموا بأفضل الجهاد، كلمة حق عند سلطان جائر، فتراهم يتحدثون عن مآثرهم وانجازاتهم، وكيف قاتلوا؟ وكيف صبروا؟ وكيف فعلوا وصالوا وجالوا؟ وهم لا يدرون أن الشجاعة تكون وقت المواجهة، وقت ما يقول المؤمنون هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله، ليس بعد انتهاء القتال وانهزام الأعداء.
 فرسان الوقت الضائع Version4_egypprot4
نحن قد رأينا العديد من الجماعات الإسلامية التي تحسب على الدعوة والصحوة الإسلامية، ومعهم العديد من الرموز والقادة المشار إليهم بالبنان، والذين يؤثرون في الجموع وتستمع لكلماتهم الجماهير، رأيناهم وقد أصبحوا ولا صوت لهم، فهذا يغلق تليفونه، وهذا يغلق موقعه الإلكتروني، وهذا يتعلل بمرضه، وهذا يسافر خارج البلاد، وقد خلت الساحة المشتعلة من قولهم فلا تحس منهم من أحد أو تسمع له ركزا، وإذا تكلم من هؤلاء أحد قالت الجماهير "يا ليته سكت"، فهو إما أن يميع القضية بكلام مثل الصلصال، حمال أوجه، كل يفهمه ويوظفه حسب هواه ومراده، وأما أن يصدمك بكلام من عينة الخروج علي الشرعية، وغلبة المفاسد، وحرمة التظاهرات، وأحسن منهما من سكت، وإن كان كل هؤلاء كانوا عونا للطاغية ونصرا للاستبداد، فهم من حيث يدرون أو لا يدرون معوقون للجهاد، ومثبطون للعزائم، كما ذكر الله عز وجل في محكم التنزيل :[ قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا] الأحزاب 18
هؤلاء قد رأيناهم بعد انتهاء المعركة ونجاح الثورة، وهم يخرجون بمؤتمرات حاشدة وجموع ثائرة وأصوات عالية، ينددون ويشجبون الطاغية وأيامه، ويجهرون أمام الجماهير، بالذي كان ينبغي أن يجهروا به والمعركة على أشدها، وشباب الثورة يحتاج إلى دعمهم وكلماتهم المؤثرة، رأيناهم وقد خرجوا يعلقون على الأحداث الجارية، بعد أن أصبحت أحداث ماضية، ويشرحون وجه نظرهم بعد أن انتهى الناس من معركتهم، فهم تماماً مثل من يريد أن يحصل على المغنم، دون أن يناله شيء من المغرم، هؤلاء هم فرسان الوقت الضائع الذين ينزلون الساحة بعد فوات الأوان، ليبحثوا عن مجد زائف، ولكن الذي لا يعرفه هؤلاء أن وعي الجماهير قد ارتفع بعد هذه الثورة وعرفوا حقيقة كل متكلم، فقد انكشف الغطاء، وبرح الخفاء، ولم يرفع التاريخ الذي هو خير شاهد بعد الله عز وجل وشهوده، سوى من كان فارساً في الميدان، أقصد ميدان التحرير.