نعي خلق فاضل


نشرت صحيفة لندن تايمز إعلان تعزية، جاء فيه:
"بمزيد من الحزن والأسى، ننعى اليوم وفاة العُرف السليم الذي عاش بيننا عدة سنين. لا يعرف أحد كم كان عمره إذ إن شهادة ميلاده أضاعها النظام الروتيني الرتيب، ولكننا سنذكره بصفاته الجليلة ودروسه العميقة التي تركها فينا وعلمتنا أن الحياة ليست عادلة دائما، وأن ما يحصل لنا يكون أحيانا بسبب ما جنته أيدينا، ومتى نقتنص الفرص ومتى نقفز عن المركب الغارق، وأن خير الرزق في البكور.
لقد عاش العُرف السليم بنظرية اقتصادية بسيطة وهي: لا تنفق أكثر مما تكسب، وباستراتيجيات موثوقة بأن الكبار، لا الأطفال، يتولون زمام الأمور.
لقد بدأت صحة العُرف السليم بالتدهور سريعا عندما حلت محله القوانين الجامدة، وعندما أصبح المعلم يُفصل من وظيفته لتقريع الطالب المشاغب، وعندما أصبح الآباء يعتدون على المعلمين لأنهم يقومون بما عجز عنه الآباء ألا وهو تربية أبنائهم. ولقد اقتربت نهايته أكثر عندما أصبحت المدارس تحتاج لإذن من الأهالي حتى تعطي الطالب المحموم دواء خافضا للحرارة، بينما لا يتوجب عليها إعلام الأهالي إذا كانت ابنتهم حامل وتريد الإجهاض!
لقد فقد العُرف السليم الرغبة في الحياة عندما أصبحت المؤسسات الدينية تجارية، وأصبح الدين وسيلة للتكسب وأصبح المجرمون يتلقون معاملة أفضل من الضحايا.
لقد أصيب العُرف السليم بضربة قوية عندما فقد الإنسان قدرته أن يدافع عن بيته وعرضه ووطنه من اللصوص!
لقد فقد العُرف السليم قبل وفاته والده الثقة ووالدته الحقيقة وزوجته الأمانة وابنه المنطق وابنته المسؤولية، وبقي خلفه أربع اخوة غير أشقاء وهم: أنا أعرف حقوقي، وأريدها الآن، والحق على شخص آخر، وأنا ضحية.
لم يحضر جنازة العُرف السليم الكثيرون، فقلة أحسوا بفقده…"
إعلان العزاء هذا ليس رمزيا فقط أو خاصا بشعب دون آخر؛ فقد أصبح العُرف والمعروف من الأخلاق المنقرضة على مستوى البشرية عامة، وأصبح عمل الخير شيئا مستغربا يستحق صاحبه الإشادة والتكريم في دنيا الغاب والفهلوة، حيث يسود قانون
(أنا ومن ورائي الطوفان)،
و(كل شيء على ما يرام ما دام عداد حساب البنك يتقدم الى الأمام)!
يا ترى كم خلق فاضل وصفة حميدة تنتظر الموت في قابل الأيام، وماذا سيبقى لأمتنا بعد فقر العز والقوة والمال والعلم لتتاجر وتحارب به إذا فقدت أخلاقها؟
إن نعي الأخلاق هو نعي كل منا وموتنا المحتوم، وصدق الشاعر إذ قال:
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتما وعويلا
يروى أن ثلاثة أشخاص في عهد عمر بن الخطاب جاؤوا ممسكين بشاب وقالوا: يا أمير المؤمنين نريد منك أن تقتص لنا من هذا الرجل فقد قتل والدنا.
قال عمر بن الخطاب: لماذا قتلته؟ قال الرجل: إني راعى ابل وأعز جمالي أكل شجرة من أرض أبيهم فضربه أبوهم بحجر فمات فأمسكت نفس الحجر وضربته به فمات، قال عمر بن الخطاب: إذا سأقيم عليك الحد.
قال الرجل: أمهلني ثلاثة أيام فقد مات أبي وترك لي كنزاً أنا وأخي الصغير فإذا قتلتني ضاع الكنز وضاع أخي من بعدي، فقال عمر بن الخطاب: ومن يضمنك؟ فنظر الرجل في وجوه الناس فقال: هذا الرجل. فقال عمر بن الخطاب: يا أبا ذر هل تضمن هذا الرجل؟ فقال أبو ذر: نعم يا أمير المؤمنين.
فقال عمر بن الخطاب: إنك لا تعرفه وإن هرب أقمت عليك الحد. فقال أبو ذر أنا أضمنه يا أمير المؤمنين.
ورحل الرجل ومر اليوم الأول والثاني والثالث وكل الناس كانت قلقه على أبي ذر حتى لا يقام عليه الحد، وقبل صلاة المغرب بقليل جاء الرجل وهو يلهث وقد اشتد عليه التعب والإرهاق ووقف بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، قال الرجل: لقد سلمت الكنز وأخي لأخواله وأنا تحت يدك لتقيم علي الحد.
فاستغرب عمر بن الخطاب وقال: ما الذي أرجعك وكان من الممكن أن تهرب؟! فقال الرجل: خشيت أن يقال لقد ذهب الوفاء بالعهد من الناس
فسأل عمر بن الخطاب أبا ذر لماذا ضمنته؟ فقال أبو ذر: خشيت أن يقال لقد ذهب الخير من الناس.
فتأثر أولاد القتيل فقالوا لقد عفونا عنه. فقال عمر بن الخطاب: لماذا؟ فقالوا: نخشى أن يقال: لقد ذهب العفو من الناس.
حفظوا الأخلاق فحفظتهم، وفرطنا فيها فخسرنا أنفسنا
عظم الله أجرنا!