سمعت طبعاً عن الجاسوس المصري طارق عبد الرازق الذي ألقت أجهزة المخابرات القبض عليه بتهمة التخابر لصالح إسرائيل، ومنذ لحظة الإعلان عن هذا الخبر وقد بدأ التهامس حول هذا الموضوع، ثم تحوّل التهامس إلى نقاش، وتحوّل النقاش إلى جدال، ثم تحوّل الجدال إلى سخرية من الوطن وعليه.
"ما هِي الحكومة خربت بيت الشعب؛ علشان كده بيخونوا بلدهم، وكفاية إن كل خاين هيعمل الفقر حجته أو شماعة يعلّق عليها خيانته، وماحدش يقدر يلومه مع إنه خاين، للدرجة دي الحال بااااااااااااااظ خالص، وهانت علينا بلدنا مش هاقول مصر هي أمي أنا أمي ماتت من زمان، وقبل ما تموت اللي يقول لي مصر هي أمي؛ هاقول له أمي في البيت جنب أبويا!!".
قارئ
ربما تُعبِّر المشاركة السابقة -تعليقا على خبر القبض على الجاسوس المصري طارق عبد الرازق- عن حالة الإحباط العامة التي عرفت طريقها إلى نفوس قطاع عريض من الشباب المصري، والذي قد يدفعهم أحياناً لاستخدام الفقر كشماعة صيني تتحمّل ما تتحمّله من خيانة للوطن، وبيعه في سوق الجمعة قبل أن يحترق (أقصد سوق الجمعة وليس الوطن).
وهو ما يدفعنا للتساؤل:
هل فَقَدَ الشباب انتماءه للوطن.. ولأرضه تحديدا؟!
وهل أصبح هناك خلط تام بين الحكومة والنظام من جانب، وبين الوطن من جانب آخر؟!
تعالوا نذهب في جولة عبر الوطن ونرى..
الغانية تبيع جسدها والخائن يبيع وطنه
الحب حالة.. مش شِعر وقوالة
المتعاطفون مع الجاسوس طارق عبد الرازق أو على الأقل الذين لا يروْنه مُخطئا أو معذورا، يعتقدون أن الخائن الحقيقي هو الوطن وليس طارق؛ الوطن الذي جعل شابا مفترض أن الوطن عنده أغلى من دنيته، لكن شاف منها الوش الوحش لحد ما باعها بمبلغ 37 ألف دولار (يا بلاش).
ففي مصر ستجد الفقر من فوقك، والجهل أسفلك، والجوع عن يمينك، والبطالة عن يسارك، والموت بداخلك، وإن كنت في هيئة إنسان على قيد الحياة، وكيف نسمّيها حياة تلك التي لم تعرف معنى الإنسانية وحقوق الإنسان؟!!
وكيف له أن يحب بلداً جوّعه وفضحه، وجعله في ذيل الأمم؟!!
إن كل التجارب الإنسانية السويّة للجنس البشري مع أي وطن تقضي بأن تنشأ حالة خاصة من الحب والتمسّك بين الإنسان ووطنه؛ بشرط وجود المنفعة المتبادلة، وهو ما يهدم الأساس النهاوندي الذي قامت عليه نظرية العظيمة شريفة فاضل: ماتقولش إيه إدِتنا مصر.. قول هَانِدِّي إيه لمصر.
فها هو طارق عبد الرازق يُكمل اتفاقية التعاون والتطبيع ولكن بالمعلومات، ومياه النيل أصبحت أقرب لشبكة صرف صحي ضخمة جلبت على المصريين عديدا من الفيروسات؛ ابتداءً من فيروس سي، وانتهاءً بالفشل الكلوي، أما الأراضي الزراعية فقد تآكلت بفضل البناء المخالِف -مخالف لإرادة الناس والقانون وليس لضمير الحكومة- وبعد كل ذلك، لماذا أُحبّها؟! لماذا لا أخونها؟! وعلى رأي الشاعر هشام الجخ:
الحب حالة.. الحب مش شِعر وقوالة
الحب حالة ماتتوجدش في وسط ناس.. بتجيب غداها من صناديق الزبالة
الحب جواكي.. استحالة
الخيانة والسفاح.. وجهان لعملة واحدة
صحيح أن كثيراً من الشباب ينظرون حولهم ليروا كل السلبيات، من فقر وجهل وجوع وبطالة، ويتساءلون: كيف يُمكن لمواطن أن يُحبّ بلدا جوّعته وحرمته أبسط حقوقه؟
ولكن يعود السؤال مرة أخرى من جديد:
هي مصر اللي جوّعتنا دي مين؟
يا ترى هي مصر الأرض والشعب.. مصر الزرع والحصد.. مصر الفرعونية والإسلامية.. مصر القبطية مصر العثمانية؟ هي كلها مقدرات في يد أصحابها، الأصل فيها الخير، تعطينا فنأخذ بأنانية، أو نسرق بأنانية، نضربها فتدير لنا خدها الأيسر، لم تزرع في جيناتنا القهر والتخلّف والخيانة، لم تفرض علينا حكومات جعلت من النشيد الوطني وتحية العلم نكتة سخيفة.
بل إنها مصر الحكومات وليست مصر التاريخ، ليست مصر الأرض والعرض، ليست مصر الأهل والأصدقاء، ليست مصر الأحلام والذكريات، ليست مصر التي توالت عليها آلاف الحكومات، منها الجيّد ومنها القبيح.. منها ما ارتفع بالبلد لأعلى الدرجات ووضع الوطن والمواطن في الصدارة.. ومنها من هبط به أسفل سافلين، وجعل المواطنين يتسوّلون بل ويقتلون من أجل حفنة دقيق، إذن الحسبة كلها تبدأ عندك وتنتهي عندك.
إذن لنركِّز ببساطة أن الوطن شيء والحكومة شيء آخر
أما فكرة أن يكون الفقر مبررا منطقيا للخيانة؛ فهذا التبرير هو التبرير ذاته الذي يسوقه الغواني تبريراً لتأجير أجسادهن مفروش، بينما "الحرة لا تأكل من ثدييها".
ولكن في حقيقة الأمر سنجد أن الغانية أفضل من خائن الوطن، فهذه تبيع جسدها فقط، بينما هذا يبيع وطنا بأكمله، أي أنه يُمارس حالة سفاح وطنية..
البطل جمعة الشوان (أحمد الهوان) رفض أن يكون عميلاً لأولاد العم، رغم أنه كان يمرّ بأسوأ ظروف حياته المادية، وكانت زوجته في أمسّ الحاجة لإجراء جراحة بعينها، ومع ذلك لم يرتكن إلى مصطلح "الفقر يُبرّر الخيانة"، والبطل رأفت الهجان (رفعت الجمال) هو الآخر حاول الموساد تجنيده في فترة كان لا يمكنه العودة لبيته؛ بسبب مطاردة دائنيه.
إذا كنت ما زلت مصمماً أنك حالة خاصة وفريدة، وأن فقرك لا يحتمل؛ فتذكّر هذه الأمثلة جيّداً.
ولكنْ لم يُبرّر الفقر الخيانة لأحد، ولم يجعل الشرفاء يتوقّفون عن الدفاع عن الوطن..
فوجود الفساد دافعاً أكبر لحب الوطن لتخليصه منه، وليس دافعاً لكراهيته، ونسب كل نقيصة تقوم بها النظم على مر العصور إلى الوطن..
إذن لنركِّز ببساطة على أن الوطن شيء والحكومة شيء آخر
في النهاية..
قد نستطيع بقلب جامد أن نقول إن شباب مصر -في هذه النقطة تحديداً- بخير، فلقد شهدنا بأعيننا وبالأرقام والبيانات، تفاعلات الشباب مع "حواديت أكتوبر" التي نشرها "بص وطل" طوال شهر أكتوبر يومياً، وتحدّث من خلالها عن قصص بطولة حقيقية.
ورأينا المعلقين كافة وعددهم يزداد، وهم يُهلّلون، ويتأثّرون بهذه البطولات، رأينا نافذة صغيرة أطلّ منها ببصيص من الضوء على شعور السباب بحب الوطن..
قد تكون النافذة مغطّاة بكمّ من التراب..
قد تكون النافذة مواربة وغير مفتوحه تماماً..
ولكنها موجودة وتُؤكّد أن تحت رماد الحكومة هناك نار وجذوة الوطن..
ودلوقتي قول لنا من فضلك.. شعورك إيه لما عرفت موضوع الجاسوس؟
اشمأزيت منه وحسّيت بالفخر للقبض عليه؟!
أم تعاطفت معه وشعرت أن الفقر مبرر كافٍ للتجسّس على بلدك؟
قول لنا رأيك على طول.. وما تنساش إن "مصر أمانة بين إيديك يا رأفت"!!